القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
المكتبة » الهجرة النبوية
مختـارات المكتبة
الدين الحياة
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
الوطء المحرم وأثره في نشر حرمة النكاح
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
زكاة الأنعام
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الأكثر قراءة
90645 مشاهدةالإيلاء
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
 
52814 مشاهدةالدين الحياة
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الهجرة النبوية الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
القسم : العبادات عدد المشاهدات : 7103 مشاهدة

الهجرة النبوية

الهجرة النبوية

 

                                                           الهجرة الخالدة
                                                           عبر القرون


 
الحمد لله الذي جعل الهجرة النبوية سفينة العبور من البراري المكية المكرمة إلى البراري المدنية المنورة لتقف في مرسى قاعدة شكلت الدولة الإسلامية، والصلاة والسلام على البدر الذي سطع في سماء يثرب فهللت القلوب فرحا بقدومه فكان خير معلم ومسطر بأفعاله الزكية للسيرة النبوية:

ماذا يقول المادحون وما عسى ** أن ينظم الكتاب في معناكا
والله لو أن البحار مدادهم ** والعشب أقلام جعلن لذاكا
لم تقدر الثقلان تجمع ذرة ** أبداً وما استطاعوا له إدراكا
وعلى آله وصحبه المخلصين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

تمر بنا في مثل هذه الأيام من كل عام ذكرى عطرة ومناسبة عزيزة على قلب كل مسلم، ألا وهي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، لقد كانت الهجرة النبوية حدثاً ليس كبقية الأحداث، بل هي حدث عالمي فصل بين مرحلتي الكفر والإيمان، فهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تعد نصراً للدعوة الإسلامية بكل ما تحتويه الكلمة من معان، فلولا توفيق الله تعالى بإتمام حادثة الهجرة ما كان لدولة الإسلام أن تقوم لها قائمة بعدما أجمعت قوى الشرك أمرها للقضاء على هذا الدين في مهده، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وقد تجلت في هذه الهجرة الكثير من الدروس العظيمة والعبر الجمّة التي ما زال المسلمون ينهلون من معينها حتى يومنا هذا، وسوف نقف على بعض تلك الدروس والعبر حتى نستلهم منها ما ينفعنا في صلاح أمر ديننا ودنيانا:

    التوكل على الله تعالى حق التوكل سبب من أسباب النصر والتمكين وتحقيق المآرب والأهداف، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين الجموع التي كانت تحيط بداره إحاطة السوار بالمعصم متوكلاً على الله وواثقاً في نصره فأغشى الله أبصارهم، وحينما اختبأ وصاحبه في غار ثور والمشركون يتربصون به ويبحثون عنه بل ورصدوا الجوائز لمن يقتله أو يدلهم عليه، فوصلوا إلى الغار بحيث لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآهما، فخشي الصدّيق على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، هنا يصدع الإيمان المتشبع بالتوكل على الله تعالى: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، فكان عاقبة التوكل: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}.

    مدى حب الصدّيق رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان يرغب في صحبته والهجرة بمعيته، فلما أنبأه الحبيب صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون رفيقاً له في رحلة الهجرة بكى من شدة الفرح، وهذا شأن المحب الصادق حينما يتغلغل الحب في شغاف قلبه يفعل بصاحبه الأعاجيب.

    حسن اختيار الصحبة الطيبة في الأسفار وانتقاء الأخيار كما تنتقي أطايب التمر، فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال، وذلك جلي في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه رفيقاً له في رحلة الهجرة.

    التضحية في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمته، وحماية الدين من الدروس التربوية التي تجلت في الهجرة النبوية، فشابّ في ريعان الفتوة والشباب، تربى على التضحية والإباء هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن سيوف الشرك قد أشرعت للقضاء على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا كانت التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الله هانت النفس رخيصة في سبيله. والصحابة رضي الله عنهم تركوا أموالهم وأملاكهم وبيوتهم وأرضهم وراءهم في مكة المكرمة تضحية في سبيل الله تعالى وابتغاءً لما عنده لأنهم أيقنوا أن الله سيُخلفهم خيراً مما تركوا في الدنيا قبل الآخرة.
    المسلم الحق صاحب مبادئ لا يتخلى عنها مهما كانت الأسباب، بل هي كالطود الشامخ الذي لا تزعزه الرياح، لقد كانت أمانات قريش عند النبي صلى الله عليه وسلم فأمر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ألا يخرج من مكة من بعده إلا بعد رد الأمانات إلى أهلها، منطقه يقول: نحن أصحاب رسالة، هيهات أن ننسى مبادئنا في حمأة صراعنا مع أعدائنا.

    إن المتأمل في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لفريق العمل الذي ستُبنى عليه الهجرة ليرى مدى الدقة المتناهية في الاختيار، والاعتماد على الكفاءات والثقات، فقد اختير كل فرد بعناية، ووضع في المكان المناسب له تماماً، فالأمر ليس هيناً، إنه أمر بقاء الإسلام أو فنائه.

    إن المتتبع في سير خطة الهجرة ليعجب أشد العجب من الدقة المتناهية التي رُسمت لها، فقد نظم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصدّيق رضي الله عنه جميع الأمور دقيقها وجليلها، خطة ذكية، وتفصيل مدروس، وسرية تامة، وفريق عمل ماهر، وحماسة للعمل، وتنفيذ دقيق، فقد عرف كل شخص دوره، وأدى مهمته، وكان التنفيذ محكماً، والأداء رائعاً، ولم يُترك شيء للصدفة، ولم يبق إلا أن تتنزل رحمات الله.
إذن لنا معاشر المسلمين من الهجرة النبوية إلى المدينة درس في فن التخطيط والتنظيم، فهي تدعونا إلى التنظيم والتنسيق لإحكام خطة العمل لكل شؤون حياتنا، وتوزيع العمل والمسؤوليات على الأفراد حسب تخصصهم دون فوضى، وعمل الاحتياطات اللازمة لكل حادث قد يصادفك، ثم بالإخلاص وتظافر الجهود تتحقق الأهداف المنشودة بإذن الله تعالى.

    نحن نعرف كيف خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفذ واستفاد من كل الطاقات والإمكانيات الموجودة حوله، ليعلمنا أن الإسلام دين العمل والجد والأخذ بالأسباب، وكيف تدخل الفعل الإلهي لنصرته، ليعلمنا الله أنه مهما أخذنا بأسباب القوة والنصر، فنحن ضعفاء بدونه لا حول لنا ولا قوة.

وهكذا تسير هذه الثنائية في حياتنا، بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، بين الإرادة الإلهية والإدارة البشرية، بين تدبير الإله وتفكير العبد، فإذا أهملنا الاعتماد على الله، وظننا أن قوتنا كفيلة بضمان تفوقنا خبنا وخسرنا، وإذا أهملنا الأخذ بالأسباب، وجلسنا في بيوتنا ندعو الله أن ينصرنا ويزلزل الأرض من تحت أعدائنا، فلن يزيدنا الله إلا خسراناً.

    قد يستغرب البعض في أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت سرية بينما هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت علنية وعلى رؤوس الأشهاد!!، إن عمل عمر رضي الله عنه أو أي مسلم آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر تصرفاً شخصياً لا حجة تشريعية فيه، فله أن يتخيّر من الطرق والوسائل والأساليب ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وإيمانه بالله تعالى، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرّع، أي أن جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعاً لنا، فلو أنه صلى الله عليه وسلم فعل كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحسب الناس أن هذا هو الواجب، وأنه لا يجوز أخذ الحيطة والحذر والتخفي عند الخوف، مع أن الله عزوجل أقام شريعته في هذه الدنيا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، وإن كان الواقع الذي لا شك فيه أن كل ذلك بتسبيب الله تعالى وإرادته.

    لقد كان المسجد أول ما بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بنائه عند وصوله إلى المدينة، وذلك حتى تقام فيه الصلوات وشعائر الإسلام، فهو أول مدرسة في الإسلام، يجمع المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويهذب نفوسهم، ويوقظ ضمائرهم، ويحل مشكلاتهم، وتظهر فيه قوتهم وتماسكهم، ويتعلمون فيه أمور دينهم ودنياهم، وتُبنى فيه الأجيال، وتُصنع الأبطال، فرسالة المسجد شاملة فهي تعليمية وتربوية واجتماعية ودينية، فينبغي لنا أن نعيد للمسجد الدور الذي ينبغي أن يكون عليه.

    من دروس الهجرة كذلك ذلكم الخلق العظيم الذي تجلى في أنصع وأبهى صوره لدى الأنصار عند استقبالهم لإخوانهم المهاجرين، فقد حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، حتى أن بعضهم أعطى أخيه المهاجر نصف بيته، واقتسم معه تجارته وشاركه في أمواله، بل وصل إيثار الأنصار أن بعضهم كان يعرض إحدى زوجاته على أخيه من المهاجرين ليطلقها الأنصاري ويتزوجها المهاجر، ولذا أنزل الله تعالى فيهم قرآناً يُتلى إلى قيام الساعة {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.

فأين نحن من التخلق بهذه الأخلاقيات الرفيعة والصفات السامية والمبادئ القويمة؟!، كم منا استجاب لنداء إخوانه المعوزين ذوي الفقر والحاجة في شتى بقاع الأرض؟!، كم منا يبيت شبعان ملء بطنه وجار له بجواره يتضور جوعاً؟!، كم منا يتباهى بلبس أغلى الأثواب بينما إخوان له لا يجدون إلا ما يستر سوأتهم ولا يرق له قلب لمد يد العون لهم؟!.

    لقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة على الإخاء الكامل، الذي تمحى فيه كلمة (أنا)، ويتحرك فيه الفرد بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها، فلا يرى لنفسه كياناً دونها ولا امتداداً إلا فيها، ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حميّة إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد ولا يتقدم إلا بمروءته وتقواه، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.

    لابد وأن ندرك أن هذا الدين لم يصل إلينا بالهوينى، بل بذلت في سبيله النفوس والأموال والمهج والأرواح، فلأجله خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أحب بلاد الله تعالى إليه إلى المدينة المنورة، خرج من مكة المكرمة التي تربى وترعرع ونشأ وشبَّ وقوي عوده ونزل عليه الوحي أول مرة فيها وعلى ترابها الطاهر، أبعد كل ما كابده النبي صلى الله عليه وسلم من أجل إيصال هذا النور إلينا نتركه ونتخلى عنه أو نتهاون فيه وفي تبليغه؟!!.

لقد تكوّن المجتمع الإسلامي الأول في إطار من المحبة والإخاء والعزة والحرية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة وليس معه إلا صاحب واحد وقلة قليلة جداً لمعاونته، وقد سبقه عشرات من المسلمين حتى مكّن له الله جلّ وعلا في الأرض ونصره، ودخل الناس في دين الله أفواجاً من شتى القبائل والأماكن، فعاد إلى مكة في العام الثامن الهجري فاتحاً على رأس عشرة آلاف مسلم موحد من خيرة أصحابه، خرج منها ليلاً هارباً فراراً بالدين ودخلها في وضح النهار منتصراً بالدين عزيزاً، وهذا جزاء الصابرين الصادقين، فبالإيمان الصادق والعلم النافع والتخطيط السليم يرتفع شأن الإسلام، وبوحدة المسلمين يكون عزهم ومجدهم.
وأخيراً:
هذه هي الهجرة وهذه دروسها، وهذه نظرتنا إليها، لها انتسب التأريخ، ولها انتسب المسلمون، ولها انتسب الصحابة، ولها انتسبت دولة الإسلام.
فما أحرانا في ذكرى هجرته صلى الله عليه وسلم أن نتمعن في هذه التعاليم وهذه الدروس وهذه العبر، إن واجبنا نحو الهجرة هو إحياء سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والتمسك بهديه واتباع دربه القويم، فنكون من الفالحين في الدنيا والفائزين في الآخرة.
 

القسم
1
1
الكتاب
1
1