القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
مختـارات الفتـاوي
-------( فارغ )-------
حكم حلب ماشية الغير والأكل من ثماره بدون إذنه
السؤال : عند الضرورة هل عند الضرورة يجوز حلب ماشية الغير والأكل من الثمار بدون إذن ؟
الأصل في مال الغير حرمة تناوله بدون إذن مالكه ، لقوله تعالى : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة : 188] وقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء : 29 - 30] وقوله في اليتامى : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء : 2] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " القليل من أموال الناس يورث النار "[1] وقوله : " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "[2] وروى البيهقي وابن حبان والحاكم عن أبي أحمد الساعدي مرفوعاً : " لا يحل لامرئ أن يأخذ عصى أخيه بغير طيب نفسه "[3] وروى الدراقطني عن أنس مرفوعاً " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه "[4] .
غير أن الله تعالى جعل في الأموال حقوقاً للمحتاجين ، فقد قال في وصف المحسنين : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات : 19] وقال : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج : 24 - 25] ، ومن أحق بهذا الحق من المضطر الذي يشارف الهلاك جوعاً ومخمصة ؟! فإن كان بين جماعة لزمهم إنقاذ حياته ودفع ضرورته من أموالهم على الكفاية {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة : 32] وإن كان مع أحد بعينه ولم يحضر غيره تعين ذلك على من كان معه ، ولم يكن له محيص عن إنقاذه إن كان قادراً عليه ، وإن لم يكن صاحب المال حاضراً أو امتنع أن يعطيه شيئاً جاز له أن يأخذ بنفسه بقدر ما يسد رمقه ، ويدل عليه حديث أبي هريرة عند ابن ماجة قال : بينما نحن مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفر إذ رأينا إبلاً بعضاه الشجر فثبنا إليها فنادانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فرجعنا إليه فقال : " إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم بعد الله ، أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلاً ؟ " قالوا : لا ، فقال : " إن هذه كذلك " قلنا : أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ فقال : " كل ولا تحمل واشرب ولا تحمل "[5] .
وفي سنن ابن ماجة أيضاً : أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة ( ح ) وحدثنا محمد بن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال : سمعت عباد بن شرحبيل  – رجلاً من بني غُبَر – قال : أصابنا عام مخمصة ، فأتيت المدينة فأتيت حائطاً من حيطانها فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلته في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فأخبرته فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعاً أو ساغباً ولا علمته إذ كان جاهلاً " فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق[6] .
قال القرطبي : هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده ، وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئاً وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكره أبو عمر اهـ.
وروى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً فإن أجابه فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل "[7] .
وروى الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من دخل حائطاً فليأكل ولا يتخذ حبنة "[8] قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم .
قلت : ويحيى بن سليم هذا قال عنه البيهقي : كثير الوهم سيء الحفظ . وذلك مما يؤثر في روايته وإن أخرج له الشيخان .
وروى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق ، فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه "[9] وقال فيه الترمذي : حديث حسن ، وأحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فيها مقال لعلماء الحديث ، إلا أن هذه الروايات يقوى ضعيفها بقويها وهي في عمومها دالة على جواز الأخذ لذي الحاجة من مال الغير لدفع الضروة الحاصلة من غير حمل ، وهو معنى " غير متخذ خبنة " .
وبمعناه ما روى من طريق ابن عمر رضي الله تعالى عنه : " إذ مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة "[10] وما جاء من إطلاق في بعضها فهو محمول على تقييد ذلك بالحاجة والضرورة كما قال أبو عبيد : وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته .
قال الإمام نور الدين السالمي رضوان الله عليه : واختلف القائلون بهذا في وجوب الضمان عليه فبعض أوجبه وبعض لم يوجبه ، دليل الأولين : أن هذا مال للغير ، وكل مال للغير مضمون بالإتلاف فهذا مضمون بالإتلاف ، وإنما أبيح له التناول للضرورة فقط ، ودليل الآخرين : أن لهذا المضطر حقاً في هذا المال ، لأنه لو حضر صاحبه لزمه أن يحييه فلما لم يحضر كان لهذا أن يأخذ حقه من ذلك المال غير باغ ولا عاد اهـ.
والراجح فيما أرى عدم وجوب الضمان ، لنص القرآن على هذا الحق في قوله تعالى : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات : 19] وقوله : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج : 24 - 25] ولما سبق من الروايات التي يشد بعضها بعضاً ، وهي دالة على جواز الأخذ في حال الاضطرار من غير تقييد ذلك بضمان ، والمطلق على إطلاقه ما لم يرد ما يفيد تقييده ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، فلو كان عليه ضمان لبينه عليه الصلاة والسلام ، على أن هذا من البر الواجب الذي نص عليه قوله تعالى : "{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة : 177] ولئن كان براً واجباً على صاحب المال فيما فضل من ماله عن حاجته فإن وجوب الضمان له بسببه لا وجه له ، والخلاف مذكور عند غيرنا في هذه المسألة كما هو مذكور عندنا ، وقد عرفت الراجح بالدليل فاشدد به يداً .
هذا واختلفوا كذلك في المضطر إن أمكنه أن يدفع ضرورته بتناول المحرمات كالميتة ولحم الخنزير ووجد مال الغير ، فبعض ذهب إلى أنه يأكل من الأول لأنه لا تبعة عليه في أكله وآخرون إلى أنه يأكل من الثاني ويعتقد الضمان ، وبأكله من المحرمات دون مال الغير قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وهو حاصل مذهب أحمد بن حنبل وأصحابه ، وبعكس ذلك قال عبد الله بن دينار وجماعة ، ونسبه ابن بركة إلى أكثر العلماء ، وفرق مالك ففي الموطأ : وسئل مالك عن الرجل يضطر إلى الميتة أيأكل منها وهو يجد ثمراً أو زرعاً أو غنماً بمكانه ذلك ؟ قال مالك : إن ظن أن أهل ذلك الثمر أو الزرع أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقاً فتقطع يده رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئاً ، وذلك أحب إليّ من أن يأكل الميتة ، وإن هو خشي أن لا يصدقوه وأن يعد سارقاً بما أصاب من ذلك فإن أكل الميتة خيرٌ له عندي ، وله في أكل الميتة على هذا سعة ، مع أني أخاف أن يعدو عاد ممن لم يضطر إلى الميتة يريد استجازة أموال الناس وزروعهم وثمارهم بذلك بدون اضطرار ، قال مالك : وهذا أحسن ما سمعت اهـ.
وأشار إمام الحرمين إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي .
هذا وللشافعية في ذلك ثلاثة أوجه وقيل ثلاثة أقوال أصحها : يجب أكل الميتة ، والثاني : يجب أكل الطعام ، والثالث : يتخير بينهما .
والصحيح فيما أرى أنه لا يعدل إلى أكل الميتة ونحوها من وجد مال الغير ، لما ثبت له من حق شرعي فيه بنص الكتاب والسنة ، فإن الضرورة إلى أكل الميتة مندرئة في هذا الحالة لإمكانه أن يحيي نفسه بما هو حلال له ، بل قيل : بأن له أن يقاتل صاحب المال إن منعه منه وهو الحق .
قال الإمام السالمي : وقد عرفت أن ما كان حراماً لغيره أخف حرمة مما حرم لعينه فهو الأولى بالقصد وإلا وجب عند الضرورة اهـ.
أما إن ترجح أنه إن أخذ من مال الغير ستقطع يده أو يصاب بأذى شديد لعدم وجود مظلة عادلة تحميه من وهج الجور وشيوع التعسف في الأحكام وعدم المبالاة بحقوق الضعفاء في أموال الأغنياء فله أن يأكل الميتة حفاظاً على سلامته والله أعلم.