القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
مختـارات الفتـاوي
-------( فارغ )-------
حكم النذر لغير الله تعالى
السؤال : هل يندرج النذر للأشجار أو عيون المياه أو غير ذلك من النذور في دائرة الشرك الذي لا يغفر كما جاء في قول الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(1) ؟
(1) الآية رقم 48 من سورة النساء .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فلا ريب أن الله تبارك وتعالى هو الإله الواحد الفرد الصمد الذي يُقصد في الملمات ، ويطلب لقضاء الحاجات ، فإنه سبحانه وتعالى وحده هو القادر على كل شيء ، وهو المصرف لهذا الوجود ، المدبر لهذا الكون ، ولذلك علّمنا سبحانه وتعالى أن نفرده بالاستعانة كما نفرده بالعبادة عندما قال عز من قائل : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة : 5] ، تعليماً لعباده كيف يوجهون إليه خطاب العبودية لمقام الربوبية وهم يفردونه في العبادة وفي استعانتهم به في جميع أمورهم ، ومعنى ذلك أن الإنسان كما لا يجوز له أن يعبد غير الله لا يجوز له أن يستعين بغيره تبارك وتعالى .
وجاءت الآيات الكثيرة في كتاب الله سبحانه ناعية على المشركين الذين كانوا يتخذون مع الله آلهة أخرى ، فيتقربون إليها بالقرابين والنذور وغيرها ، ويشركونها في العبادة ، ويعتقدونها وسائط بينهم وبينه تعالى ، فالله سبحانه وتعالى يقول : {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد : 16] ، ويقول سبحانه وتعالى : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر : 38]، وفي ذلك ما يدل على أن من انفرد بخلق كل شيء لا يسوغ أن يشرك معه غيره في العبادة أو الدعاء ، ولهذا احتج القرآن على المشركين بما هو راسخ في نفوسهم ، لا يمارون فيه في مجادلاتهم وهو أن الله وحده هو خالق السماوات والأرض ومالكهما ، فأبطل بذلك دعَاءَهم لغير الله وذلك في قوله : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ : 22]، وقوله : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر : 40] ، ثم أتبع ذلك قوله : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر : 41] ، وقول تعالى :{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف : 4]  ، ولئن كان الله يحتج بهذا على المشركين الذين لا يؤمنون بالقرآن لأن حجة ذلك قائمة عليهم من عقولهم فما بالكم بالمسلمين الذين صدقوا أن هذا القرآن حق من عند الله كيف يتصاممون عن هذه الحجج بجانب تعطيلهم لمداركهم عندما يدعون غير الله ويدعون دعاء من خلق السماوات والأرض .
وتتوالى الآيات الكثيرة دالة على أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يرفع الضراء وهو الذي يبتلي من يشاء بما يشاء ، فقد قال سبحانه : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام : 17] ، وقال : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام : 17]  ، وقال : {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة : 51] ، وقال : {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر : 2]، وهكذا تتوالى الآيات لتبلور العقيدة الصحيحة والفكر السليم الذي يصل بين العبد وربه سبحانه وتعالى من غير أن تكون بينهما واسطة ، وهي دالة على حرمة أن يتقرب الإنسان بنذر أو قربان إلى غيره تعالى ، كأن ينذر لعين أو لشجرة أو لحجرة أو لغير ذلك ، وهذا ما أكده قول النبي صلى الله عليه وسلم : « وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله » (1)  .
لذلك نجد من العلماء من حكم بشرك من يفعل ذلك ، وبحرمة زوجته عليه وأنها تخرج من عصمته إلا إن تاب ورجع إلى عقيدة الإسلام وتبرأ من هذه العقيدة الزائفة التي يعتقدها في الأشجار والأحجار ونحوها .
وأنا أعجب كيف لا يفكر هذا الإنسان في أن هذه الكائنات بأسرها لا تملك منفعة ولا دفع مضرة عن نفسها ، فكيف تستطيع أن تحققه لغيرها !! .
ولا يختلف اثنان من العقلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل مخلوقات الله سبحانه وتعالى ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يقول له : {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف : 188]، هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمر بأن يقول ذلك كان إبان حياته وملء ثيابه ، فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم ، بل كيف بالأموات في القبور ، والأشجار والأحجار وغيرها .
فهذه القضية في منتهى الجلاء والوضوح ولكن تعمى عنها أبصار الذين على أبصارهم غشاوة .
هذا ومن المعلوم أيضاً أننا علينا أن نعتقد بأن قول الله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48]، لا يعني تسويغ ما دون الإشراك من أنواع المعاصي ، وأن المعصية التي هي دون الإشراك مغفورة ، فإن الله تبارك وتعالى قد قطع دابر هذه الأماني عندما قال : {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء : 123] ، وهو القائل ناعياً على أهل الكتاب هذا المعتقد الخاطئ : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف : 169] .
وإنما هذه الآية الكريمة تكررت في سورة النساء مرتين ، والسياق هو الذي يدل على معناها ويشخصه ، فإنها مسبوقة في أحد الموضعين بقول الله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء : 47]  ثم تبع ذلك قوله : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء : 116]  ، وسبقها في الموضع الآخر قوله تعالى : {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 115] ، ثم تبعه قوله :  {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
ومعنى ذلك أن تعالى لا يغفر الشرك ولو تاب المشرك من أي معصية من المعاصي ، وإنما يغفر المعاصي كلها إذا تاب من الشرك ، فإن الإسلام جب لما قبله ، فهذه دعوة للدخول في الإسلام ، مع تبشير الذي يدخلون فيه بأن ما سلف منهم من المعاصي يغفر بدخولهم في الإسلام ، كما قال تعالى : {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال : 38]، فالذين يتوبون من شركهم هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم ما سلف مما هو دون الشرك بدون توبة لأن الإسلام وحده كاف لئن يجب ما قبله .
وبهذا ينتظم هذا النص مع سائر النصوص الأخرى التي تؤكد الوعيد الشديد على الكبائر في سلك واحد من المعنى فلا يكون بينها تنافر وتعارض ، وإنما وعد الله سبحانه أن يغفر الصغائر مع اجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر وذلك في قوله : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء : 31]، والله المستعان .
(1) رواه الضياء في المختارة رقم ( 12 ) والحاكم في المستدرك رقم ( 6303 ) والترمذي رقم ( 2516 ) .