القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
أهميةُ التفقهِ في الدِّين
بتاريخ 10 ديسمبر 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أهميةُ التفقهِ في الدِّين

 

الحمدُ للهِ الذي طهّر بالعلمِ سرائرَ العلماءِ العارفين ، وزيّن بالعملِ ظواهرَ العاملين المخلصين ، سبحانه هو } الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ { ( العلق/4 ـ 5) أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذُّنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكلُ عليه ، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ { ( الجمعة/2) ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسله اللهُ إلى خلقِه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً مُنيراً ، فبلّغ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، وعلّم من الجهالةِ ، وبصّر من العمى ، وأنقذ من الضلالةِ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسار على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

    اتقوا اللهَ ، وتعلَّمُوا من العلمِ النافعِ ما يبصّرُكم بأمورِ دينِكم وأمورِ دنياكم ، واعلموا أنَّ العلمَ من ضروراتِ الحياةِ الإنسانيةِ ؛ لأنه معقدُ الارتباطِ الاجتماعيِّ فيما بينهم ، كما أنه مناطُ الإصلاحِ النفسيِّ ، ولذلك جعله اللهُ سبحانه وتعالى سببَ تكريمِ الإنسانِ ، ورفعَ  قدرَهُ فوق الملأِ الأعلى كما يدلُّ على ذلك ما أخبرَ اللهُ عز وجل به من قصةِ أبي البشرِ عندما قال عزَّ مِن قائلٍ : } وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ { ( البقرة/30 ـ 33) ، فالإنسانُ هو بحاجةٍ إلى معرفةِ شُخُوصِ الأكوانِ ، وذلك يتوقّفُ على معرفةِ أسماءِ الأشياءِ ، ومن أجلِ ذلك جعل اللهُ سبحانه وتعالى عبدَه آدمَ ـ عليه السلام ـ الذي هو أبو البشر مُلْهماً بمعرفةِ الأسماءِ ، وذلك الأمرُ ليس من ضروراتِ شؤونِ الملائكةِ ، فلذلك لم تتوقّفْ شؤونُهم على معرفتِها ، وقد جعل اللهُ سبحانه وتعالى ذلك سبباً لتكريمِ ذلك الإنسانِ ، ورفع قدْرَه في الملأِ الأعلى .

    وقد جاءت رسالاتُ اللهِ سبحانه وتعالى كلُّها رسالاتِ علمٍ ، وعندما أرسلَ عبدَه ورسولَه صلى الله عليه وسلم  كان أوّلُ ما أُنِزل عليه دعوة عامّة إلى العلمِ ، تتمثلُ هذه الدعوةُ في ندائِه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بأنْ يقرأَ ، معَ أنّ هذا الخطابَ إنما هو خطابٌ لجميعِ الناسِ الذين بُعِث فيهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  ، فقد قال اللهُ سبحانه وتعالى في مطْلعِ ما أَنزلَ على عبدِه ورسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم  : } اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {  ( العلق/1 ـ 5)  ، وقد جاء القرآنُ الكريمُ دليلاً واضحاً على منزلةِ العلمِ وعلى أقدارِ العلماءِ العاملين ، فاللهُ سبحانه وتعالى يقولُ : } قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ { ( الزمر/9) ، ويقولُ عزَّ مِن قائلٍ : } وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ { ( العنكبوت/43) ، ويقولُ سبحانه وتعالى : } شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { ( آل عمران/18) ، فذَكَرَ أولاً شهادتَه ، ثم ثنّى بشهادةِ ملائكتِه ، ثم ثلّثَ بشهادةِ أُولي العلمِ من عبادِه ، وكفى بذلك منزلةً لا تُسامى ، وشرفاً لا يُساجَلُ لأهلِ العلمِ الموصُولين باللهِ سبحانه وتعالى .

     وكلُّ علمٍ يؤدي إلى منفعةٍ دينيةٍ أو منفعةٍ دنيويةٍ هو علمٌ مطلوبٌ ، بل العلومُ الدنيويةُ قد تتحوّلُ إلى علومٍ أخرويةٍ عندما تُسخّرُ لمصلحةِ العبادِ ، وعندما يكونُ صاحبُها متفانياً في خدمةِ الناسِ ، وقد يتجاوزُ الأمرُ ذلك كلَّه إلى أن تكونَ هذه العلومُ سبباً لإلهامِ الإنسانِ خشيةَ اللهِ تباركَ وتعالى عندما يتجاوزُ ظواهرَها الشكليةَ إلى حقائقِها ؛ بحيث يَعتبرُ بما يتجلى من علومٍ دنيويةٍ من آياتِ اللهِ تعالى في الأنفسِ وفي الآفاقِ ، ويدلُّ على ذلك قولُ اللهِ سبحانه وتعالى : } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {  ( فاطر/27 ـ 28) ، ففي الآيتين الكريمتين إشارةٌ إلى ضُرُوبٍ من العلومِ الكونيةِ التي تتعلّقُ بأحوالِ الناسِ ، والتي تتعلّقُ بأحوالِ الجوِّ ، ثم بعد ذلك كانت النتيجةُ خشيةَ الذين آتاهم اللهُ العلمَ من عبادِه عزَّ وجلَّ ، فإذاً هذه العلومُ عندما يتجاوزُ الإنسانُ ظواهرَها إلى بواطنِها تصلُ به إلى خشيةِ اللهِ سبحانه وتعالى .

    ولئن كانت العلومُ كلُّها نافعةً ، وكلُّها تؤدي إلى مصالحَ دنيويةٍ ومصالحَ أخرويةٍ ؛ فإنَّ أسعدَ العلومِ بالخيرِ وأولاها بالاهتمامِ ما كان سبباً لصلاحِ الإنسانِ المعاشيِّ والمعاديِّ ، وذلك هو الفقهُ في دينِ اللهِ تبارك وتعالى ، ويدلُّ على ذلك أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم  قالَ : « مَنْ يُردِ اللهُ به خيراً يفقِّهْهُ في الدِّينِ » ، فإذاً الفقهُ أمرٌ ضروريٌّ ؛ لأنه تتوقّفُ عليه العباداتُ بجميعِ أنواعِها ، فالإنسانُ مُطالَبٌ بأن يعبدَ اللهَ تباركَ وتعالى على بصيرةٍ ؛ لأنه عندما يعبدُه على جهلٍ وعمى قد تكونُ عبادتُه نتيجتُها عكسيةٌ ؛ بحيث يُفسِدُ من شأنِها أكثرَ مما يُصلِحُ ، وكلُّ إنسانٍ مُطالَبٌ بأن يكونَ مُراعياً لعهدِ اللهِ سبحانه ، وأن يكونَ مُصلِحاً في عبادِ اللهِ بقدْرِ المُستطاعِ ، وذلك كلُّه يتوقّفُ على معرفةِ أحكامِ اللهِ تعالى في أمورِ الناسِ المعاشيّةِ والمعاديّةِ ، وعندئذٍ تكونُ الضرورةُ إلى الفقهِ في مقدمةِ الضروراتِ بأسرِها ، والفقهُ في دينِ اللهِ ليس نظرياتٍ أو مسائلَ يتلقاها الإنسانُ فيَحْشي بها دماغَه ، وإنما الفقهُ في دينِ اللهِ قبلَ كلِّ شيءٍ صلةٌ باللهِ سبحانه وتعالى ؛ بحيثُ يكونُ هذا الفقيهُ خائفاً من ربِّه ، عاملاً بأمرِه ، واقفاً في حدودِه ، وإلا كان مَثَلُه كمثَلِ بني إسرائيل الذين قال اللهُ سبحانه وتعالى فيهم : } مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { ( الجمعة/5) ، والفقيهُ هو الذي يمكنُه أن يدعوَ الناسَ إلى عبادةِ اللهِ تبارك وتعالى ، وإلى امتثالِ أوامرِه ، والوقوفِ عند حدودِه وعدمِ تجاوزِ شيءٍ من أوامرِه أو نواهيه ، وذلك بطبيعةِ الحالِ يتوقّفُ على كونِه قدوةً صالحةً لهم ، وإلا كان مثَلُه كمثَلِ الذين قال اللهُ تعالى فيهم: } أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ { ( البقرة/44) ، فمِن هنا كان الفقيهُ أولى ما يكونُ بخشيةِ اللهِ تبارك وتعالى،  واتباعِ أوامرِه ، والازدجارِ عن نواهيه .

    ولئن كانت عبادةُ اللهِ تبارك وتعالى أمراً مشتركاً بين جميعِ العبادِ ، ولا يوجدُ أحدٌ من الناسِ هو معذورٌ عن عبادةِ اللهِ ؛ لأنّ العبادةَ هي الغايةُ من خلْقِ الناسِ في هذه الحياةِ كما دلَّ على ذلك قولُ اللهِ سبحانه وتعالى : } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ { ( الذاريات/56) ؛ فإنّه من الضرورةِ بمكانٍ أن يحرصَ كلُّ أحدِ بأن يتفقّهَ في دينِ اللهِ تباركَ وتعالى بقدْرِ ما يعبدُ اللهَ عزَّ وجلَّ على بصيرةٍ ، وبقدْرِ ما يؤدي واجباتِه في حياتِه على بصيرةٍ ومعرفةٍ ؛ حتى لا يتخبّطَ في هذه الحياةِ وظلماتِها ، وهذا لا يُنافي أن تكونَ للناس تخصّصاتٌ متنوعةٌ في العلومِ ، كما تكونُ لهم اختصاصاتٌ مختلفةٌ في الأعمالِ ، وإنما يجبُ أن يضبِطَ كلَّ ذلك بالفقهِ في دينِ اللهِ سبحانه وتعالى ، ومعَ ذلك فإنّ الناسَ بحاجةٍ إلى علماء ربانيين وفقهاء متبحرين ، يعرِفون ما يأتون وما يذرُون ، يُفتُون الناسَ في أمورِ معاشِهم وأمورِ مَعادِهم بما يستنبطونه من كتابِ اللهِ ومن سنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  ، وهؤلاء هم المتبحرون في شريعةِ الإسلامِ ، وهم الذين يغوصون في أعماقِ الكتابِ والسنةِ بدراسةِ ما فيهما ، ومعرفةِ ظواهرِ أحكامِهما وبواطنِهما ؛ حتى يُفتُوا الناسَ على بصيرةٍ من أمرِهم ، وهؤلاء هم الأحرى بأن يكونوا قدوةً للناسِ في أعمالِ الخيرِ بأسرِها ، وأن يكونوا قادةً لهم في السبيلِ الأمثلِ ، يسيرون بركبِ الحياةِ البشريةِ في الطريقِ القويمِ الذي يُفضي إلى سلامةِ الدنيا وسعادةِ العُقبى ، وجديرٌ بالناسِ أيضا بأن يَرجِعوا إلى هؤلاء في حلِّ مشكلاتِهم ، ومعرفةِ ما يأتونه وما يذرُونه من شؤونِ حياتِهم ، عندئذٍ تلتحِمُ حياةُ الناسِ بأسرِها ، وتكونُ حياةً مستقيمةً تسيرُ في الدربِ الصحيحِ ، ولا يؤدي الأمرُ إلى مشكلاتٍ ، ولا يؤدي الأمرُ إلى تناقضَ ونزاعاتٍ فيما بين الناسِ ؛ لأنهم يصدرون عن رأي علماء ربانيين يأمرونهم بالخيرِ ، ويأمرونهم بالمعروفِ ، وينهونهم عن المنكرِ ، وجديرٌ بهؤلاءِ العلماءِ الذين يتبحرون في الشريعةِ الإسلاميةِ أن يعرفوا أيضا أحوالَ الناسِ في معاشِهم وفي أمورِ معادِهم، وذلك يتوقّفُ على دراسةِ التطوراتِ البشريةِ ، فإنّ هذه التطوراتِ تفرِزُ مشكلاتٍ متنوعةٍ ، وهذه المشكلاتُ لا بدَّ لها من حلولٍ ، ومن الذي يستطيعُ أن يقومَ بحلِّها إلا الذين تصوروها تمامَ التصورِ ، ومع ذلك غاصوا في أعماقِ الشريعةِ الإسلاميةِ لاستجلاءِ الحلولِ لها .

      فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصوا على تعلّمِ ما ينفعُكم في دينِكم وفي دنياكم ، واحرصوا على التقرّبِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى بأنواعِ القرباتِ وصنوفِ الطاعاتِ ، ومن هذه القرباتِ البذلُ في سبيلِ العلمِ ، فإنّ البذلَ في سبيلِ ذلك من أعظمِ القرباتِ ؛ إذ البذلُ في سبيلِ العلمِ إنما هو بذلٌ في سبيلِ اللهِ سبحانه وتعالى ، فبالعلمِ تصلحُ أحوالُ الناسِ، وتقوى صلتُهم باللهِ تباركَ وتعالى ، ويتعاونون على الخيرِ ، واحرصوا بجانبِ ذلك على أن يكونَ علمُكم وعملُكم خالِصَينِ للهِ سبحانه وتعالى ، فإنَّ العلمَ من أعظمِ القرباتِ وأحسنِ العباداتِ ، فاللهُ تباركَ وتعالى يقولُ : } فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا { ( لكهف/110) ، ويقولُ عزَّ وجلَّ : } وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ { ( البينة/5) .

     وعبادةُ اللهِ ـ كما قلتُ ـ إنما هي بالعلمِ وبالعملِ جميعاً ، وقد جاءَ في حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم  ما يدلُّ على وجوبِ الإخلاصِ في طلبِ العلمِ للهِ عزَّ وجلَّ ، فقد قال ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « من تعلمَ العلمَ ليُباهيَ به العلماءَ أو ليُماريَ به السفهاءَ لقيَ اللهَ وهو خائبٌ من الحسناتِ » ، فساءتِ الحالةُ أن يلقى العالِمُ الذي آتاه اللهُ سبحانه وتعالى ما آتاه من العلمِ أن يلقى ربَّه وهو خائبٌ من الحسناتِ .

     فاتقوا اللهَ في سريرتِكم وعلانيتِكم . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِرُوا اللهَ يغفرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *        *

     الحمدِ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ : 

    فيا عبادَ اللهِ :

    اتقوا اللهَ } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{ ( آل عمران/133 ـ 135) ، واعلموا أنَّ ذلك كلَّه إنما يتوقّفُ على العلمِ النافعِ ، فإنَّ الإنسانَ لا يمكنُه أن يتقيَ اللهَ حقَّ تقاتِه كما أمرَه سبحانه وتعالى إلا إذا كان على بصيرةٍ بما يأتيه وما يذرُه من شؤونِ هذه الحياةِ ؛ بحيثُ يحكّمُ العلمَ النافعَ في جميعِ أمورِ حياتِه ، ويرجعُ إلى حكمِ اللهِ تباركَ وتعالى الذي يطلبُه من كتابِه ومن سنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم  } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا { ( الأحزاب/36) ، وبجانبِ ذلك أيضاً فإنّ التعايُشَ فيما بين الناسِ على أساسِ التقوى مِن اللهِ سبحانه وتعالى ؛ بحيثُ تكونُ العلاقةُ بينهم علاقةَ تقوى وصلاحٍ وإصلاحٍ لا يمكنُ أن ينبنيَ إلا على أساسِ العلمِ ، فإذاً جميعُ هذه الأمورِ تتوقّفُ على العلمِ النافعِ ، ولذلك كان العلمُ في مقدمةِ ما امتنَّ اللهُ تباركَ وتعالى به على عبادِه ببعثةِ عبدِه ورسولِه صلى الله عليه وسلم  ، فقد قالَ اللهُ تعالى : } لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ { ( آل عمران/164) ، وامتنَّ تباركَ وتعالى بذلك على الأميين العربِ الذين كانوا في مؤخرةِ الأممِ من حيث العلمُ عندما قال : } هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ { ( الجمعة/2) ، ثم امتنَّ على سائر الشعوبِ عندما قال : } وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { ( الجمعة/3 ـ 4) .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وتعلموا من أمورِ دينِكم ودنياكم ما يقرّبُكم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ زُلفى وما يُصلِحُ أمورَ معاشِكم ومعادِكم ، واتقوا اللهَ في سريرتِكم وعلانيتِكم } وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ { ( البقرة/281) .