القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
منهج الإباضية في التعامل مع الآخر
بتاريخ 12 مارس 2013
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

 

منهج الإباضية في التعامل مع الآخر

قبل كل شيء إنني أعتقد اعتقادا -وأرجو أن أكون فيه مصيبا-، وهو أن هذه الأمة لا نزاع فيها لأن القرآن الكريم يبين لنا ذلك ويدعونا إلى اعتقاده ثم إلى جانب ذلك علينا أن نفهم أن الدين الإسلامي الواسع جاءنا بعقائد مبسطة، وجاءنا أيضا بشريعة سمحة.

وقد جعل الإسلام الاختلاف في بعض الجزئيات التي تتعلق بالنواحي الشرعية أمرا من محاسن هذا الدين الحنيف، فإن الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم أخبرنا بما يطمئن قلوبنا من أن الاختلاف عندما يكون اجتهادًا خالصًا لوجهه -تبارك وتعالى- يؤجر عليه الجميع وذلك عندما قال سبحانه: }مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ{ (الحشر: 4)، وكذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أمر المسلمين أن يصلوا العصر في بني قريظة، عندما كان الصحابة في الطريق، أدركتهم صلاة العصر فانقسموا إلى قسمين فمنهم من أخذ بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا حرج علينا في تأخير الصلاة عن ميقاتها، لأنه أمر من الشارع -عليه الصلاة والسلام-. ومنهم من قال: لا، بل المراد بذلك أن نتعجل بالسير وعلينا أن نصلي الصلاة في ميقاتها.

وقد أقر النبي -عليه الصلاة والسلام- هؤلاء وهؤلاء على اجتهادهم، وهكذا كانت هذه الأمة في بداية أمرها، أمة متسامحة مهما وقع الاختلاف بين علمائها، ثم نجمت مشكلـة في هذه الأمة، هي مشكلة الخلافة، وحصل ما حصل بين الصحابة –رضـوان الله -تعالى- عليهم- من الاختلاف، منذ نقل الله -سبحانه- رسولـه إلى جواره الكريم -عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم-، ولكـن أذعـن الجميع فيما بعد للطريقة التي اتفق عليها المسلمون.

والخلفاء الراشدون الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نسيرعلى هديهم، وأن نستن بسنتهم، كانت طريقة اختيار كل واحد منهم هي الطريقة المعروفة، وهي شورى بين المسلمين، وكما أرشدنا الله -تبارك وتعالى- إليه، ثم حصل ما حصل من خروج بعض الناس على الخليفة الشرعي على بن أبي طالب –كرم الله وجهه- ثم بعد ذلك كانت قضية التحكيم، وهنا كان لأسلاف الاباضية موقف من التحكيم، وذلك أنهم رأوه تنازلا من خليفة شرعي عن حق شرعي، فلم يسوغوه.

وبعد ذلك وعندما آل الأمر إلى الدولة الأموية بطبيعة الحال انقلب الأمر عما كان عليه من قبل بحيث صار الخليفة يعين من يأتي من بعده، وبطبيعة الحال كان كل واحد يعين أقرب الناس إليه، فاعتبر كثير من الناس (و من بينهم الإباضية) أن هذا الأمر هو خروج عن المنهج الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نتبعه وعن سنة الخلفاء الراشدين، ورأوا أن أمر الخلافة هو أكبر وأعظم وأجل من أن يفقد أهم أركانه وهو الشورى، لأنه أمر يعني الأمة بأسرها، والأمة بأسرها مطالبة بأن تحافظ على حرمات الله، وأن تقوم بشريعة الله، وأن تقيم موازين القسط في هذه الأرض، وهي مسؤولة كلها عن ذلك، فلو عادت الخلافة إلى فرد يتحكم فيها أو إلى أسرة تتحكم فيها، بحسب ما تريد فإن ذلك يؤدي إلى نقض عرى هذا الدين عروة عروة، وفعلا حصل ما حصل حتى قال من قال: "من قال برأسه هكذا قلنا له بالسيـف هكذا"، وفي هذا إسكـات للألسن أن تقول كلمة الحق، بخلاف ما كان الأمـر عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فإن عمر بن الخطاب -رضي الله –تعالى- عنه- يقول: "أيها الناس إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموه". فقال له أحد الناس: "والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا"، ولم يكن هذا القول من ذلك الرجل داعيا إلى أن يتبرم أمير المؤمنين من قوله، أو أن يتأذى منه، أو أن يعتـبر قوله تعديا على السلطـة، أو تمردا عليها، وإنما اعتبر ذلك من المحامد حتى حمـد الله على أن أوجد في هذه الأمة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفـه.

وهذا دليـل على أن المنهـج الذي اجتمـع عليه الخلفـاء الراشدون -رضوان الله عليهم- كان منهجًا واضحًا لا غبار عليه، ومستـقيمًا لا اعوجاج فيه، وأن الأمور ساءت فيما بعد، وبطبيعة الحال حصل ما حصل وتبلور الفكر الذي سمي فيما بعد بالمذهب الإباضي، وذلك في الحركة التي قام بها بعض الناس الذين كان لهم اتصال بالمحكمّة الأولين، ومن المشهورين من هؤلاء الناس: عبدالله بن إباض، ولكن هذا الرجل لا يعتبره الإباضيون إماما كإمامة سائر أئمة المذاهب الإسلامية، الذين كان لهم فقه مدون، وكانت لهم آراء محفوظة، واجتهادات معلومة، وإنما كان عبدالله بن إباض ناطقاً باسم الإباضية، ولهذا لا تجد في كتب الفقه مسألة واحدة تنسب له قط، لا في فقه الإباضية ولا فقه غيرهم، وإنما كان هو الواجهة، وكان متكلما باسم الجماعة، والممثل لها لدى السلطة، ولهذا نَسَبَ الناسُ هذه الجماعةَ -وهي الإباضية- إليه، وإلا فإن المنظّر الحقيقي لهذا المذهب هو الإمام أبو الشعثاء جابر بن زيد، وهو من أكبـر تلامـذة الصحـابي الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-.

وقد كان الإمام جابر يعالج القضايا بسرية وتكتُّم، ويهيئ الجماعة لكي تقوم بهذا الأمر، وكان له في ذلك أعوان، ومن هؤلاء الأعوان من هو معدود من الصحابة -رضي الله عنهم- مثل: صحار بن عباس العبدي وهو معدود من الصحابة، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن له رواية للأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جاء دور الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي -هو تميمي بالولاء- لكنه كان ذا أهلية للقيادة، وقد اجتمعت فيه المؤهلات القيادية التي تفوق فيها على أقرانه، وقد كان مع فقره وضعفه وكونه فَقَدَ بَصَرَهُ- مؤمنًا قويّاً يدير هذا الأمر في سرداب في أرض البصرة، ويفتح بصيرته على ما يجري في العالم، وكان يرسل الرسل، وفي ذلك الوقت كانت الفتوحات تتوالى ولكن كما قال صاحب (المغرب في تاريخ المغرب): "من أن بني أمية استغلوا الفرصة لإشباع شهواتهم من وراء ذلك، فكانوا يأكلون أموال الناس، ويبحثون عن الجواري وكان قطيع من الغنم يذهب سدى، من أجل البحث عن كبد على لون العسل في الأجنة في أرحام الأمهات"، فعندما بلغته هذه الأخبار أرسل أحد أصحابه وهو سلمة بن سعد إلى بلاد المغرب، فكان لسلمة دور كبير في نشر هذا المذهب في بلاد المغرب، وهو الذي قال عند وداعه لأستاذه: "وددت لو ظهر هذا الأمر يوما واحدا في بلاد المغرب ثم لا أبالي أن تضرب عنقي". وهكذا كان للإمام أبي عبيدة دور كبير في نشر هذا الفكر وهذا المذهب الإباضي والفقه الإباضي في بلاد المغرب وفي بلاد المشرق، وقد وصل أصحابه إلى خراسان، ومنهم من كان في أرض العراق، ومنهم من كان في أرض اليمن، ومنهم من كان في عمان، ومنهم من وصل إلى مصر، ومنهم من وصل إلى المغرب، وتكونت المجموعة المعروفة بـ(حملة العلم إلى المغرب) من مدرسة أبي عبيدة.

وفي أيام أبي عبيدة عُقِدَتْ ثلاثُ إمامات، فقد عقدت الإمامة أولا في بلاد المشرق للإمام طالب الحق عبدالله بن يحيى الكندي، الذي أوفد إلى الحجاز أبا حمزة الشاري المشهور، وبويع في اليمن، ووصل جيشه إلى الحجاز، ودخل مكة بهم وقاتل، وقد قوتل هذا الجيش في أرض قديد، وانتصر، ثم بعد ذلك قوتل فكانت الكرة عليه.

وعلى أية حال لعلنا إن رجعنا إلى التأريخ عرفنا المنهج الذي سارت عليه هذه الجماعة المعروفة بالإباضية، فعندما دخل طالب الحق بلاد صنعاء -وكان هو وأصحابه على فقر مدقع، حتى وصفهم أبو حمزة بأن النفر الكثير منهم كانوا يتعاقبون على بعير واحد-، وجدوا الأموال التي جباها القاسم الثقفي عامل بني أمية وأخذها من صنعاء عنوة، ولكن الإمام طالب الحق لم يَسْتَبِحْ أن يأخذ منها شيئا لنفسه ولا لأصحابه، بل وزعها بين أهل صنعاء لأنها أُخِذَتْ منهم بغير حق، فرأى أن يردها عليهم، وهكذا كانت معاملة الإباضية لكل جماعة من جماعات المسلمين، عندما يحكم عليهم مَنْ قبلَهم بالبغي فإنهم لا يستبيحون شيئا من أموالهم، والإمام أبو الخطاب -وهو أول إمام بويع في المغرب- عندما استنجدت به امرأة من أرض القيروان، بعدما جارت عليها القبيلة -وهي قبيلة صفرية المذهب-، وذهب لإنجادها بجيش، خَطَبَ في الجيش قائلا: "إن هؤلاء لم يخرجوا عن ملة التوحيد ولا نستبيح أن نأخذ من أموالهم شيئا قط". وعندما وقعت المعركة وخرج الناس من ديارهم بعد المعركة، ظنوا أنهم سيجدون المتاجر مسلوبة، والمزارع متلفة لكنهم وجدوا عكس ذلك، وعندما مرت امرأة بأرض المعركة ووجدت أن كل جندي فيها بسلبه، ولم تؤخذ أسـلابهم قالت: "كأنهم رقـود". فَسُمِّيَ المكان "رقـادة" إلى الآن في القيروان.

وكذلك فإن الإباضية لم يكونوا يجرؤون على قتل أحد أو قتاله إلا بعد أن يقيموا عليه الحجة، وعندما جرت مواجهة بين جند أبي حمزة الشاري في "قديد" وأهل المدينة، قال أبو حمزة لأصحابه: "لا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم"، ثم بدأهم أهل المدينة بالقتال وأصيب أحد جنود أبي حمزة فقال لهم: "دونكم الآن فقد حل القتال". فقتالهم كان قتال دفاع وليس هو هجوما على تلك الطائفة، وإن كانت هي التي بدأت الحرب.

وأيضا عندما قيل للإمام أبي الخطاب: "نأكل أموالهم كما يأكلون أموالنا"، قال لهم: "إذن حق على الله أن يكتبنا معهم في النار، ونكون كما قال الله تعالى: }كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا{ (الأعراف: 38). لذلك نجد في تعريف هذه الجماعة تلك المواقف التي فيها المحافظة على هذه الأمة، وعلى أعراضها، وعلى دمائها، وبدون ذلك لا يمكن أن يتجرأوا على القتل وغيره، وهنا أذكر قصة وقعت في هذا العصر الأخير قبل أقل من قرن من الزمن عام 1331هـ ومفادها أن في ذلك العام عقدت الإمامة في عُمان على الإمام سالم بن راشد الخروصي، وكان من بين السكان الذين يسكنون (سمائل) في عمان ذلك الوقت رجل شيعي جاء للتجارة، وكان في سمائل بعض القبائل الإباضية غير الملتزمة، فَسَرَقَتْ هذا الرجلَ الشيعي، فأخذ الإمام سالم تسعة نفر من رؤساء تلك القبائل ووضعهم في السجن حتى أخرجوا له من سرق الشيعي، وهذا إن دل فإنما يدل على تسامح الإباضية مع غيرهم من المذاهب الإسلامية، مهما كان الخلاف بينهم، وحرصهم على المحافظة على أموال إخوانهم من المسلمين وأعراضهم وأنفسهم.