الحمد لله خالق الخلق، وباسط الرزق، الذي له ملك السموات والأرض ، وبيده الأمر والنهي من محظور ومكروه ومندوب وفرض، أحمده تعالى بما له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى سراجاً للمهتدين ، وإماماً للمتقين، ونعمة على الخلق أجمعين، فبلَّغ الرسالة، وأدّى الأمانة ، ونصح الأمة، فجزاه الله تعالى خير ما جزى نبياً عن أمته، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه .
تفاصيل المقال تكتب هنا أما بعد، فإن الموضوع الذي نريد أن نتحدث عنه هنا - وهو الاقتصاد الإسلامي - يعد موضوعاً هاماً جداً في حياة الأمم ، لأن الاقتصاد في كل عصر من العصور هو عصب هذه الحياة ، لذلك أصبح يحرك السياسات الدولية، ويبّدل الأحوال من وضعٍ إلى وضع، وقد لقي العناية البالغة في الشريعة الإسلامية التي جاءت من العزيز الحميد، الذي يعلم ما في طوايا هذه النفوس ، ويعلم ما في الكون . إن موضوع المال موضوع مهم جداً ، وجاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الإنسان يُسأل عنه من أين اكتسبه ، وفيمَ أنفقه[أخرجه الترمذي في كتاب : صفة القيامة، باب : في القيامة (3425) من طريق أبي برزة الأسلمي]؟؟ ، لأن منهج الإسلام في الاقتصاد مبني على النظرة السليمة إلى المال ، وهي أن هذا المال مال الله تعالى رب السموات والأرض ، وإنما الإنسان مستخلف فيه ، ويدل على ذلك قول الله تعالى :{ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور : 33] ، ويقول سبحانه : {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد : 7]، ولما كان هذا المال مال الله كان الإنسان أميناً عليه ، وحرياً أن يتحرى فيه أمر الله ، بحيث لا يقدم فيه ولا يحجم إلا ببينة من ربه ، فلا يتصرف فيه تصرفاً مطلقاً كما يملي عليه هواه ، وجاءت الآيات القرآنية محذّرة من أخذ هذا المال من غير حله ، فقد شدَّد الله سبحانه في أمر الربا، وجعله حرباً بين الله تعالى وبين العباد الذين يأكلونه ، وحرَّم جميع المكاسب الخبيثة، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 275]، وبيَّن تعالى أن الربا، وإن ظنه الإنسان نماء للمال ، فما هو إلا ممحقة له ، والصدقة التي يتصورها الإنسان نقصاً في المال ، ما هي إلا بركة ونماء فيه ، فإن الله تعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة : 276] ، ويقول عزّ من قائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} [البقرة : 278 - 279] ، ويقول سبحانه في معرض التحذير من أكل أموال اليتامى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء : 10] ، ويقول : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 188] ، ويقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [النساء : 29 - 30] ، وجاء في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام كثير من الروايات التي تبيّن مجملات الكتاب العزيز ، والتي تحذر مما حذّر منه الكتاب العزيز ، من ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه» ، ثم قال : «هم سواء» [أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة ، باب: لعن آكل الربا ومؤكله(1598)] ، يعني في الإثم ، وقال : «اتقوا السبع الموبقات» [أخرجه البخاري في كتاب: الوصايا، باب : قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى طلماً (2766)]، وذكر من بينها أكل الربا ، ويقول : «القليل من أموال الناس يورث النار»[أخرجه الإمام الربيع في كتاب: الأيمان والنذور : باب : في الوعيد والأموال(690)] ، وقال : «ردوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة» [أخرجه الإمام الربيع في كتاب: الأيمان والنذور : باب : في الوعيد والأموال(694)]، وفي الحديث الذي أخرجه الربيع والشيخان من طريق أبي هريرة قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر ، ولم نغنم ذهباً ولا فضة إلا الأموال والمتاع ، فأهدى رجل من بني الضبيب يُسمى رفاعة إلى رسول الله غلاماً أسود يُسمى مدعماً ، فتوجه الرسول نحو وادي القرى ، فبينما مدعم يحط رحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه سهم غرب أصابه فقتله ، فقال الناس هنيئاً له الجنة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - « لا والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» ، فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «شراك أو شراكان من نار»[أخرجه الإمام الربيع في كتاب : الجهاد ، باب : جامع الغزو في سبيل الله (47)] . والأحاديث في ذلك كثيرة جداً . وجاء في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - التحذير من الكثير من الأمور التي يكون منها كسب المال ، ولكنه مكسب خبيث ، فقد حرّم ثمن الكلب ، وحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وعسب الفحل ، وحرّم الرشوة - والإشارة إليها واضحة في كتاب الله تعالى - وجعلها من أسباب اللعن ، وحذّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جميع بيوعات الغرر ، وحذّر من الكثير مما يتصرف فيه الناس لمجرد أهوائهم رغبةً في تنمية المال ، وفي كتاب الله - أيضاً - تحريم الميسر ، وقد قرنه الله بالخمر والأنصاب والأزلام : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة : 90 - 91] ، فكسب المال إنما يجب أن يكون من طريق طيب نظيف ، ومن وجه يفيض بالرحمة وتكتنفه الأخلاق الطيبة ، لا من وجهٍ يصبح الإنسان فيه أشبه بالوحوش المفترسة ، فذلك يؤدي إلى سخط الله . هذا والنفوس جبلت على حب المال ، فالله تعالى جعله قوام الحال ، وجعل قضاء الحوائج والوصول إلى المطالب من خلاله، فلذلك أشربت هذه النفوس حبه ، كما يقول الله في وصف الإنسان : {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات : 8]، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر : 20] ، وهذا الحب عندما يتنامى في النفس البشرية يسيطر على جميع جوانبها ، في فكرها ووجدانها وأحاسيسها فيصبح حب المال متحكماً في الحياة بأسرها ، فتقوده هذه الشهوة إلى الكثير من الأمور التي تؤدي إلى الإرهاب وإشاعة الرعب بين الناس ، وتتلف الأنفس وتزهق الأرواح ، وتسفك الدماء ، وتستباح الحرمات من أجل تنمية المال ، وربما وصل الأمر إلى أن تتقطع الصلات بسبب هذا الحب الجارف للمال بين الأقربين ، فقد يعتدي الإنسان على أقرب خاصته ، ليصل إلى ما بيد أخيه أو حميمه من الثروة ، من أجل ذلك كله جاء الإسلام بالعلاج الصحيح الذي يجعل هذه الغريزة بناءة بدلاً من أن تكون هدامة ، ونجد ذلك واضحاً في وضع القيود لاكتساب المال ، فلا يُباح للإنسان أن يكتسبه من أي وجه من الأوجه، بل من الوجوه المشروعة فقط ، كما جعل الله علاج هذا المرض بالإنفاق حتى يستعلي الإنسان على هذه الرغبة ، وحتى تتفجر في نفسه مشاعر الرحمة ، ويكون العطف على الغير من طبيعتها ، وجاء القرآن الكريم مبيناً قيمة الإنفاق ، وما يؤدي إليه عدم الإنفاق من الخطر العظيم ، فالله تعالى جعل الإنفاق في الخير من أسباب القرب إليه ، ومن أهم الوسائل التي تبلغ رضوانه ، وذلك في قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)} [الليل : 5 - 11]، فالله تعالى يبيّن في أن من اتصف بصفات الطائفة الأولى كان ذلك سبباً للوصول إلى ما يصبو إليه كل عاقل من التيسير للحسنى ومعناه أن يتبوأ خير دار ، وكما ترون فقد ذكر الله تعالى العطاء مقدماً على التقوى، وذكره مقدماً على الإيمان والتصديق ، وذكر في المقابل البخل الذي يؤدي به إلى الإعراض عن التقوى والاستغناء بما في يده عن طاعة الله تعالى، ويؤدي به إلى التكذيب بالحسنى وتكون عاقبته أن ييسر صاحبه للعسرى ، نسأل الله تعالى السلامة. ونجد أن الله تعالى عندما يتوعد الكفرة ، لا يتوعدهم على مجرد الكفر ، وإنما يتوعدهم على ما يفعلون من هذه الأفعال الخطيرة ، فعندما توعد في سورة ( ق ) كل كفار عنيد قال : {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)} [ق : 24 - 26]، فأول ما وصف به الكافر أنه مناعٌ للخير ، وكذلك عندما يسأل الذين يدخلون سقر ، يكون جوابهم : {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر : 43 - 44]، فذكر أولاً أنهم ليسوا من المصلين ، وبجانب ذلك أنهم لم يكونوا يطعمون المسكين . فإذاً من أهم واجبات الدين ، ومن أهم أسباب النجاة والسعادة ، إنفاق المال ومن المعلوم أن المال إنما هو مال الله سبحانه ، ويجب أن يكون التصرف به مضبوطاً بالضوابط التي أمر الله بها ، ومقيداً بالقيود الشرعية حتى لا يخرج عن كونه إنفاقاً شرعياً ، فتجد القرآن يوصي بالإنفاق في سبيل الله - وهو وعاء يشمل كل أنواع البر - ، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 261] ، ولكنه ضبط هذا الإنفاق بضوابط خلقية حتى لا يتلبس بما يحبط الثواب، فيقول تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 262]، وبين خطورة المن والأذى فيقول : {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة : 263] ، ثم يتبع قوله ذلك : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة : 264] ، ففي هذه الآيات حذّر الله تعالى من إحباط العمل بالمن والأذى ، فالصدقة يحبطها الرياء والمن الأذى ، والذين ينفقون أموالهم مناً وأذى لا يستطيعون أن يتوصلوا بإنفاقهم إلى شيء ، لأنه مثل الصفوان - وهو الصخر الصلب الذي عليه طبقة خفيفة من التراب - لا يمكن أن ينبت عليه شيء ، فإذا نزل عليه المطر كانت العاقبة أن يتكشف عن منظره الكالح بزوال تلك الطبقة الترابية التي تغطيه ، فإذا بالأمر يؤدي إلى اليأس من أي فائدة ، هذا شأن الذي ينفق ماله رياءً أو مناً أو أذى ، فالله تعالى منّ عليه بأن أعطاه المال ، فكيف يمن على غيره؟ بل يجب عليه أن يشكر ربه على تيسير هذا المال ، وعلى منّه عليه أن أنفقه في سبيل الخير . والقرآن يحض على الإنفاق مذكراً بأخطر المراحل التي يمر بها الإنسان ، ففي معرض التذكير باليوم الآخر الذي تنقلب فيه علاقة المودة إلى عداوة إلا المتقين ، يأمر بإنفاق المال فيقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة : 254] ، كذلك في معرض التذكير بالموت يأمر الله بالإنفاق قبل أن يأتي ذلك اليوم فيقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)} [المنافقون : 9 - 10] ، فجدير بالإنسان أن يستعد للقاء الموت بالإنفاق في سبيل الله قبل أن يباغته ويتمنى أن يمهل ولو لوقت قصير ليتصدق بشيء وأنى له ذلك ؟ وقد أمر الله بإنفاق الطيب، أي المال الذي تتشوق إليه النفس ويميل له القلب ، ولا ينفق مما يزهد فيه من رديء المال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة : 267] ، وقد بيّن القرآن أن البر يكون في الإنفاق مما تميل إليه النفس من المال : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران : 92] ، وعندما ذكر خصال البر كان المذكور إثر العقيدة إنفاق الإنسان مما يحب من ماله على المحتاجين : {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة : 177] ، وهذه الحقوق من غير الزكاة بدليل أن الله تعالى أتبع ذلك قوله : { وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } [البقرة : 177] ، ومن المعلوم أن العطف يقتضي التغاير بين المتعاطفين، فلا يكون المعطوف عليه عين المعطوف ، والله تعالى في معرض الدعوة إلى الإنفاق يبين لعباده أنه يغدق عليهم الخير الجزيل على الإنفاق فيقول : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة : 245] ، ويقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة : 268] ، فالشيطان يأمر بالفحشاء ، والله يأمر بالخير والبر ، ويعد المنفق مغفرة في الدار الآخرة وفضلاً يشمل الآخرة والدنيا ، ويبيّن الله أن كل نفقة فهو بها عليم: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران : 92] ، والإنفاق في الإسلام متنوع ، فمنه إنفاق مقيد وهو الزكاة التي تجب بمرور زمن مخصوص وهو مرور الحول ، وهناك إنفاق مطلق ، والقرآن يشير إلى أهمية الزكاة وأنها تضاع من قبل المشركين ويعدهم الله بالويل ، وقد فرضت في بداية الإسلام ووكلت إلى الأغنياء ينفقونها بقدر ما يرون ، ولم يجعل لها حداً ، وليس كما يقال إنها فرضت في المدينة ، ويدلّ على ذلك الآيات الكثيرة التي نزلت في مكة مثل سورة فصلت التي نزلت في مكة ، وفيها : {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت : 6 - 7] ، وفي سورة المزمل: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل : 20] ، وما قيل إن هذه الآية من بين آيات السورة نزلت في المدينة غير صحيح ، فصدر هذه الآية يدل على نسخ ما فرض في أولها من قيام معظم الليل ، وكان ذلك في مكة المكرمة ، ثم خفف على الناس وذلك قبل فرض الصلوات الخمس ، ثم فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء ، ويقول سبحانه بعد أن بيّن أعذار الناس الداعية إلى التخفيف عنهم : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل : 20] ، وهناك الكثير من الآيات نزلت بمكة تدل على هذا الفرض ، مثل ما في سورة الذاريات وهو قوله تعالى : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات : 19] ، وما في سورة المعارج وهو قوله سبحانه وتعالى : {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)} [المعارج : 25 - 26] ويدل على ذلك أيضاً ما أُنزل في المدينة المنورة مما يدل على أن المرحلة التي أمر الله فيها الناس أن يصبروا على ما يلقون من أذى كانوا مأمورين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكان ذلك قبل أن يفرض عليهم القتال ، وكان ذلك - كما هو معلوم - بمكة. والزكاة تؤدي إلى تربية ضمائر الأغنياء حيث تتفجر هذه النفوس بمشاعر الرحمة والرغبة في الإحسان وتستل الأحقاد التي في نفوس الفقراء الذين يشعرون بالنقمة وحب الانتقام من الأغنياء ، فمن حكمة الله أن يسن هذا الإنفاق ليكون هناك تواؤم وانسجام بين طائفتي الأغنياء والفقراء ، وبيّن أن كون المال دولة بين الأغنياء غير مرغوب فيه في الشرع ، وأمر الزكاة أمر خطير في الإسلام ، والوعيد على ترك الزكاة كثير ، وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا صلاة لمانع الزكاة والمتعدي فيها كمانعها»[أخرجه الإمام الربيع في كتاب: الزكاة، باب : الوعيد في منع الزكاة (340) من طريق ابن عباس] أي الذي يضعها في غير موضعها الشرعي ، وبيّن الله تعالى أن الزكاة تطهير، قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة : 103] على أن تسمية الزكاة تدل على الطهارة والنماء ، فمعنى زكا نما ، وزكا أيضاً طهر ، فهي تربي النفوس على الفضائل وتبتعد بها عن آثار الشح ، فترتفع بها ارتفاعاً . والإسلام بهذا النظام المالي يفارق النظامين المشهورين الشيوعي والرأسمالي ، فالشيوعية تمنع الفرد من أن يتملك ، أما الرأسمالية فتعطيه حرية التملك المطلق ، فلا تفرض عليه قيوداً خلقية ولا اجتماعية، بعكس الإسلام الذي أجاز للفرد أن يتملك ، لأن هذه سنة الحياة ، ولأن تقدم عجلة الحياة لا يكون إلا بالتنافس على اكتساب الخير ، ولكن هذه الملكية مضبوطة بضوابط ، فالله تعالى فرض الإنفاق المطلق عندما تكون الزكاة غير سادة حاجة الفقراء ولابد من إيتائهم المال لأنه جسر يصل الأفراد بعضهم ببعض، وبذلك يكون المجتمع الصالح ، فتذوب الفوارق، وتتحطم الحواجز ، وتكون الرحمة والإحسان ، وعلى الإنسان أن يبادر قبل الموت بالإنفاق في سبيل الله، والنفقات المطلوبة كثيرة ، فالزكاة المفروضة يجب أن تؤدى ، ثم مع هذا هناك ميدان واسع للتنافس بين أهل الخير ، فينفق المال على المحتاجين من غير الزكاة المفروضة ، وكذلك هناك مجالات أخرى ، فإنفاق المال في إنشاء المدارس - ولا سيما المدارس القرآنية والدينية - من أعظم البر الذي يقرب إلى الله تعالى ، وكذلك إقامة المراكز - ولا سيما في عطل الصيف - من أجل تنافس الطلاب على حفظ كتاب الله واقتناء المعارف الدينية ، وكذلك طباعة الكتب ، وإنشاء المكتبات ، وإنشاء جميع مراكز البر ، وإنشاء المؤسسات التي تقدم القروض الحسنة البعيدة عن التعامل بالربا .. إلخ ، فليتنافس في ذلك المتنافسون ، واستغفر الله لي ولكم ، و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . |