مسجد الضرار [أصل هذا البحث جواب عن سؤال فيمن أوصّى ببناء مسجد يقرب مسجد عامر]
الوصية لا تغير حكماً من أحكام الشريعة ، فلا تُحلُّ حراماً ولا تحرم حلالاً ، ولا تُحِقُّ باطلاً ولا تُبطلُ حقاً ، فكما لا يجوز للإنسان أن يعتدي في حياته على ملك غيره فيبنىّ في أرضه مسجداً بغير إذنه ، كذلك حكم الإيصاء به ، فلا تثبت به الوصية إن أوصى به بعد مماته ، وكما لا يجوز بناءُ مسجد يؤدي إلى مضارة أحد بعينه أو بمصلحة عامة للناس ، فكذلك الوصية به بعد الوفاة ، وكما لا يحل لأحد أن يبني في حياته مسجداً بجوار مسجد يضر به ويفرق جماعته ، كذلك الوصية به لا تصح ولا يجوز إنفاذها، إذ لا فرق في مثل هذه الأمور بين أن يفعلها الإنسان بنفسه أو يوصي بها بعد موته ، لأن الوصية شرعت لتكون قربةً إلى الله يستدرك بها الإنسان بعد مماته ما فاته من صنيع الخير في حياته ، ليكون رصيداً يُحسبُ له يوم الحساب ، فكيف يباح ويصح الإيصاءُ بما خالف الحق ؟! وبناءُ المساجد من القربات التي تزيد في الإيمان ، ويرتقي بها صاحبها أوج معارج الفضل ، قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة : 18] وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة"[رواه أحمد وابن ماجة والطبراني والبزار وغيرهم] ، وبما أنه من القربات إلى الله فإنه يجب أن يكون مضبوطاً بضوابط الشرع ، غير خارج عن حدود الله ، فإن كلَّ عمل خرج عن حدود الله أدى إلى سخطه - والعياذ بالله - ، من أجل ذلك نزل ما نزل من التشديد في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد نهى الله نبيَّه - عليه أفضل الصلاة والسلام - عن الصلاة فيه والقيام به، قال تعالى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ } [التوبة : 107 - 108] ، وفي قوله تعالى هذا ما يؤذن بأن كل مسجد لم يؤسس على التقوى لا يعطى حكم المساجد الشرعية ، ولا تحل الصلاة به ، لأنه لاحق في حكمه بمسجد الضرار، والصفات الأربع التي كانت لمسجد الضرار، وكانت مقصد الذين اتخذوه وهي: الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والارصاد لمن حارب الله ورسوله كل منها علة مؤثرة في الحكم ، مستقلة بترتب امتناع الصلاة في المسجد الذي تلبست به عليها ، ولا يلزم اجتماعها جميعاً ، أرأيتم لو بني المسجد لمجرد الإرصاد لمن حارب الله ورسوله ، من غير أن يكون معه تفريق بين المؤمنين ولا غير ذلك مما ذكر ، هل يقال بجواز الصلاة فيه ؟ كلاَّ وألف كلاَّ ، فكيف يقال بجواز الصلاة في مسجد بني لتفريق الجماعة ؟! وقد فهم ذلك أهل البصائر من علماء السلف والخلف على اختلاف مذاهبهم الفقهية ، فألحقوا بمسجد الضرار كل ما كان له شبهّ به، وفي مقدمة هؤلاء الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ، وإليكم بعض نصوص أهل العلم في ذلك:- - قال قطب الأئمة - رحمه الله - في «تيسير التفسير» (152/5) : وعن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمر - رضي الله تعالى عنه - أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارُّ أحدهما صاحبه ، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى عماله وأمرهم أن يهدموا كل مسجد ضارَّ آخر - يعني هدم المسجد الحادث الضَّار لسابقه -. - قال القطب - أيضاً - في "هيميان الزاد" (ج7 ق2 ص257) : وكل مسجد بني ضراراً أو رياءً وسمعةً أو لغير الله مطلقا فحكمه حكم مسجد الضرار . ثم ذكر قصة عمر . - وذكر ذلك - أيضاً - كلاً من البغوي في تفسيره (148/3) ، والخازن في تفسيره (148/3) ط . مصطفى البابي الحلبي . - وذكر مثل ذلك - أيضاً - نظام الدين النيسابوري في "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" (18/7) ط. دار المعرفة للطباعة والنشر . - قال الزمخشري في كشافه (214/2) ط. دار المعرفة : وقيل كل مسجد بني مباهَاة أو رياءً أوسمعة أو لغرض سوى ابتغاءه وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار ، وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه، لأنه بني على ضرار . وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً ، ثم ذكر حكاية عطاء لقصة عمر - رضي الله عنه - . - قال القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (254/8) ط. دار إحياء التراث العربي : قال علماؤنا لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد ، ويجب هدمه والمنع من بنائه ، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً ، وذكر بعده منع تعدد الجوامع التي تصلى فيها الجمعة في المصر الواحد وأورد قصة شقيق - إلى أن قال - : قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أوسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه . - قال العلامة السيد محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" (39/11) ط. دار المعرفة - عند تفصيله أغراض بناء مسجد الضرار - : (3) التفريق بين المؤمنين الذين هنالك ، فإنهم كانوا يصلون جميعاً في مسجد قباء ، وفي ذلك من مقاصد الإسلام الاجتماعية ما فيه ، وهو التعارف والتألف والتعاون وجمع الكلمة ، ولذلك كان تكثير المساجد وتفريق الجماعة منافياً لمقاصد الإسلام - إلى أن قال - : وهذا يدل على أن بناء المساجد لا يكون قربة مقبولة عند الله إلا إذا كان بقدر حاجة المؤمنين المصلين ، وغير سبب لتفريق جماعتهم... إلخ. - تابعه على ذكر ذلك العلامة المراغي في تفسيره (25/11!26) ط. دار إحياء التراث العربي . - بين ابن العربي الحكمة مما ذكر بقوله في كتاب "أحكام القرآن" (1013/2) ط. دار المعرفة : وهذا يدلك على أن المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة ، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة ، حتى يقع الأنس بالمخالطة ، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد والحسد. - قال الجصاص في كتاب "أحكام القرآن" (157/3) ط. دار الكتاب العربي : قوله تعالى {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة : 108] فيه الدلالة على أن المسجد المبني لضرار المؤمنين والمعاصي لا يجوز القيام فيه ، وأنه يجب هدمه ، لأن الله نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن القيام في هذا المسجد المبني على الضرار والفساد ، وحرم على أهله قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ، إهانة واستخفافاً بهم ، على خلاف المسجد الذي أسس على التقوى . - قال ابن حزم في المحلى (44/4) ولا تجزي الصلاة في مسجد أحدث مباهاة أو ضرراً على مسجد آخر ، إذا كان أهله يسمعون نداء المسجد الأول، ولا حرج عليهم في قصده ، والواجب هدمه وهدم كل مسجد أُحدث لينفرد فيه الناس كالرهبان ، - إلى أن قال - : وعلى قدر ما بناها - عليه السلام - بالمدينة لكل أهل محلة مسجدهم الذي لا حرج عليهم في إجابة مؤذنه ، وما زاد على ذلك أو نقص مما لم يفعله - عليه السلام - فباطل ومنكر ، والمنكر واجب تغييره ، ثم قال : وقد هدم ابن مسعود مسجداً بناه عمر بن مسعود بظهر الكوفة ، ورده إلى مسجد الجماعة . - قال الإمام نور الدين السالمي - رحمه الله تعالى - في المعارج (66/6) وينهى عن تكثير المساجد وتقاربها في البلد الواحد ، لما يؤول في ذلك من تشتت الجماعات وتفرق الأصحاب ، وتقليل العمارة للمساجد ، وتقوية الأجر الحاصل بكثرة الجماعة ، وقال في موضع آخر منه (ص68) - بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في فضل بناء المساجد - : ولعمري إن ذلك العموم مخصص ، فلا يصح إبقاؤه على ظاهره ، إذ لو جاز ذلك للزم أن يجوز بناء المساجد على عدد البيوت في القرية ، ولا قائل بذلك ، وما هو إلا منكر لو فعله أهل قرية وجب الإنكار عليهم ، ولا يسمع تعللهم بأنهم لم يريدوا ضراراً. هذا ونصوص أهل العلم في هذا أكثر من أن يحصيها يراع أو يتسع لها سفر، وما أوردناه كاف في تبيان منهجهم الحق ، ولئن كان الحكم الشرعي فيما بني من المساجد مجاوراً لغيره بحيث يؤدي إلى تفريق جماعته هدمه - إن كان قائماً -، فكيف يسوغ إنشاؤه من جديد ؟ إنه لمنكر لا قرار له في حكم الإسلام، ولو أوصى به من أوصى ، فإن الوصية - كما قلت - لا تحق باطلاً ، فكيف إن كانت أرضه غير مملوكة للموصي ، ولم يقره مالكها على وصيته فيها ، أو كان - مع ذلك - يؤدي بناء المسجد فيها إلى مضرة أحدْ بعينه ، أو مضرة لمصلحة عامة للناس ؟ وقد نص العلماء على حرمة بناءه المسجد في الأرض المغتصبة ، على أن كل ما كان بخلاف مقتضى الشرع فهو مردود ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(1) ، وفي رواية "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(2) ، ورفع المضار أياً كانت من مقاصد الشريعة الغراء ، وفي الحديث "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(3) ، ولا داعي إلى إيراد ما قالوه في ذلك لشهرته . هذا ، ولأن المساجد بيوت الله المقدسة التي لم يأذن سبحانه فيها إلا بما يؤذن بقدسيتها ، كان بناؤها في رأي أهل العلم موقوفاً على التشاور بين أهل الصلاح والنظر والاتفاق عليه . - قال الشيخ عامر - رحمه الله - في الإيضاح (560/2): وإن أرادوا أن يبنوه فليشاوروا أهل دعوتهم بعد اتفاق من أهل المنزل على ذلك، وإن لم يتفق خيار أهل المنزل على بنيانه فلا يبنوه حتى يتفقوا . - وقال صاحب النيل وشارحه - رحمهما الله - (235/5) : (وإن أرادوا بناءه شاورا فيه أهل) أي خيار أهل (دعوتهم وإن غير منزلهم بعد اتفاق) خيار (أهله) - أي أهل المنزل - (عليه لا إن لم يتفق عليه خيار أهله ) ولا يعتبر فيه غير الخيار . - وقال شيخنا ابن جميّل - رحمه الله - في سلك الدرر (2/0550/2) يبنونه من بعد الائتمار على اتفاق الصلحا الأخيار وبناءً على هذا كله فهذه الوصية باطلة لا تصح ، وإنما يسوغ للورثة مع اتفاقهم أن ينقلوا هذا المبلغ الموصى به إلى حيث تكون الحاجة داعية إلى بناء مسجد على رأي الصلحاء الأخيار واتفاق أهل المحلة ، من غير إضرار بمسجد ما أو مصلحة ما ، وفي ذلك المثوبة والأجر - إن شاء الله - . هذا ولم أرد بإيراد ما أوردته من كلام أهل العلم مع الدليل الشرعي من كتاب الله إلا التنبيه على خطأ ما يقع فيه الناس من تكثير المساجد في الحي الواحد، مما أدى إلى فرقة الجماعات وتشتتها ، ولئن ساغ شيء من التسامح في ذلك في المدن المكتظة بالعمارات الغاصة بالسكان الذين تضيق بهم المساجد القائمة ، فكيف يمكن التسامح بمثله في القرى ، مع أن المساجد التي بها تكفي لأضعاف المصلين ، على أن كثيراً من هؤلاء يشحون ببناء المساجد في الأماكن التي هي أحوج إليها - وما أكثرها - ، فيستحبون أن ينفقوا أموالهم حيث يأثمون بدلاً من إنفاقها حيث يؤجرون ، وهذا كله ناشئ إما عن الجهل وإما عن الحمية ، فلا يرضى أحدهم أن يبني مسجداً إلا في قريته أو عند عشيرته ، وذلك منافْ لهدي الإسلام الداعي إلى التلاحم والتألف بين جميع أتباعه ، من غير التفات إلى هذه العصبيات الباطلة الممقوتة ، ومما زاد الطين بلة سكوت أهل العلم في عصرنا عن هذا المنكر ، وهو مما يجب عليهم تغييره ، وتعريف عوام الناس به ، والله أعلم وعليه قصد السبيل ، وهو المستعان على كل شيء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . |