القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
المكتبة » مفهوم الشورى في الإسلام
مختـارات المكتبة
الدين الحياة
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
الوطء المحرم وأثره في نشر حرمة النكاح
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
زكاة الأنعام
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الأكثر قراءة
90560 مشاهدةالإيلاء
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
 
52756 مشاهدةالدين الحياة
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
مفهوم الشورى في الإسلام الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
القسم : العبادات عدد المشاهدات : 6373 مشاهدة

 مفهوم الشورى في الإسلام

مفهوم الشورى في الإسلام

 

 
 
                                                                  مفهوم الشورى في الإسلام

محاضرة للشيخ أحمد بن حمد الخليلي(1)

                                                                 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرع لعباده الإسلام دينا، واسع الأرجاء، ظليل الأفياء، شامخ البناء، يسع العالمين، ويحقق للإنسانية الخير والسعادة إلى يوم الدين، أحمده-تعالى-بما هو له أهل من الحمد، وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب، وأتوب إليه، وأومن به، وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، ونعمة على الخلق أجمعين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فالسلام عليكم أيها الإخوة المؤمنون ورحمة الله وبركاته .. أحييكم هذه التحية الطيبة المباركة، وأشكركم على اجتماعكم هنا في ظل دين الإسلام الحنيف، الذي يجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا ينفر، ويعدل بين أبنائه، إذ يقيمهم جميعا على صراط العدل والحق، وينصف الإنسانية جميعا، إذ لا يفرق في عدله وإنصافه بين بغيض وحبيب، وبعيد وقريب، إنما الميزان القسط هو الذي يَعتمِد عليه هذا الدين في حكمه، ويعوِّل عليه في قراره.

هذا وإنّ نظام الشورى الذي أمر الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله-عليه أفضل الصلاة والسلام-أن يلتزمه، ومدح عباده المؤمنين به، وهو نظام جدير بأن يُعتنى به، لأنه نظام يوحِّد كلمة الأمّة، فإنّ الأمّة التي تتوحد في آمالها وفي آلامها، وفي غاياتها وفي أهدافها، وفي مبادئها وأفكارها، وفي جميع شؤونها لابد من أن تكون أمّة متعاونة، وبهذا التعاون تتحقق وحدتها.

وإنّ من سنّة الله-تعالى-في خلقه أن جعل الكائن البشري كائنا اجتماعيا، فكل فرد من أفراد هذا الكائن هو بحاجة إلى بني جنسه، وذلك ليَتِم نظام التعاون الاجتماعي بين هذا الجنس البشري، فنجد الناس على اختلاف طبقاتهم، وعلى اختلاف هبات الله-تعالى-لهم كلُّ أحد منهم يحتاج إلى الآخر؛ فالحاكم نفسه هو بحاجة إلى الوزير، وإلى المستشار، وإلى الولاة، وإلى القضاة، وإلى الشرطة، وإلى الجند، وهو بحاجة إلى جميع الناس على اختلاف مواهب الله-تعالى-لهم؛ وهكذا سنّة الله-تعالى-في خلقه، ليتم التواؤم والاجتماع بين بني الجنس البشري.

والشورى بين الناس مما يُجسد هذه الوحدة الاجتماعية بين هذا الجنس، فإنّ كل أحد بحاجة إلى فكر غيره، وهذا الفكر لا يتجلى إلا من خلال التشاور؛ وقد قيل: إنّ عقول البشر كالمصابيح، فالمصباح الواحد يضيء حيّزا صغيرا من المكان، ولكن إذا اجتمعت المصابيح وسُلطت أضواؤها على منطقة معيّنة فإنّ الظلمة من تلك المنطقة تتبدد، وهكذا عقول الناس إذا اجتمعت تحقق باجتماعها ما لم يتحقق باستقلال كل واحد منها عن الآخر؛ ونجد حكماء الشعراء يوصون في شعرهم بالتشاور، فهذا بشّار بن بُرد يقول:

إذا بلغ الأمر المشـورة فــاستعن        بـرأي لــبيب أو مشورة حازم
ولا تجعـل الشورى عليك غضاضة        فــإنّ الخــوافي قوة للقـوادم

فاللبيب لا يجعل الشورى غضاضة عليه، إذ هي لا تدل على نقصان عقل المستشير، وإنما تدل على رجحان عقل، ولأجل ذلك قيل: الناس ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فـ " الرجل الكامل " هو صاحب الفكر النيِّر وبجانب ذلك يستشير غيره، و " نصف الرجل " هو الذي له فكر وقّاد ولكنه لا يستشير غيره، أو ليس له فكر وقاد إلا أنه يستشير غيره، و " لا شيء " هو من لا فكر له ولا مشورة بحيث لا يعوِّل على استشارة الآخرين.

ولعظم شأن الشورى في الإسلام نجد أنّ الله-تبارك وتعالى-في كتابه العزيز أثنى بها على عباده المؤمنين، وقرنها بكلمة التوحيد وإقامِ الصلاة وقدَّمها على الإنفاق من المال الذي يشتمل على ركن من أركان الإسلام وهو الزكاة، فقد قال سبحانه وتعالى:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)[سورة الشورى، الآية: 38]، بدأ بالاستجابة لله-تبارك وتعالى-بإعلان كلمة التوحيد، ثم ثنّى بإقام الصلاة، ثم ثلّث بذكر الشورى، ثم أتبع ذلك الإنفاق من رزق الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على  مكانة  الشورى  في  الإسلام، وقد سمّيت هذه السورة التي اشتملت على هذه الآية الكريمة بسورة " الشورى "، وهي من السور المكية التي نزلت قبل هجرة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، ونزول هذا الوصف للمؤمنين بمكة المكرمة في وقت كان فيه المؤمنون قِلَّة مضطهدين، ولم تكن لهم دولة تحميهم يدل على عناية الإسلام باجتماع الكلمة ولمّ الشعث ووحدة الصف، فاجتماع الجماعة على الشورى قبل أن تكون لهم دولة لأجل أن يتوطَّنوا على نظام الشورى عندما تكون لهم دولة، وما الدولة إلا إفراز للجماعة، فالدولة الإسلامية هي إفراز للجماعة المسلمة، وقد وُجدت الجماعة المسلمة من خلال وجود الأفراد المؤمنين بمكة المكرمة والدولة مقبلة فيجب أن يكون أمر هذه الجماعة أمرا يُجسد وحدتها حتى إذا ما قامت دولتها كانت تلك الدولة قائمة على هذا الأساس القوي المتين .. أساس الشورى الذي يعطي كل ذي حق حقه.

وقد أمر الله-تبارك وتعالى-فيما أنزل على نبيه-عليه أفضل الصلاة والسلام-بالمدينة المنورة .. أمره بأن يشاور أصحابه، فقد قال الله سبحانه وتعالى:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[سورة آل عمران، الآية: 159] .. متى نزلت هذه الآية الكريمة ؟ وفي أيّ سياق جاءت في السورة التي وضعت فيها ؟ نزلت في ساعة مريرة كان المسلمون فيها يلعقون جراحهم مما أصابهم في واقعة أُحُد التي جَندلَت عددا من أبطالهم، من بينهم سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب-رضي الله تعالى عنه-أسد الله وأسد رسوله، وعمّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم؛ وسياق الآيات التي قبل هذه الآية والتي بعدها إنما هو في هذه الحادثة المؤلمة التي كانت النفوس المؤمنة تعيش آلامها، أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن يستشير أصحابه؛ وهو-عليه أفضل الصلاة والسلام-كان من قبل يستشير أصحابه رضي الله-تعالى-عنهم، ويحرص على هذه الاستشارة؛ حتى قبل الهجرة كان-عليه أفضل الصلاة والسلام-يجتمع بأصحابه ويستشيرهم، ويرجع-عليه أفضل الصلاة والسلام-إلى مشورتهم عندما يتبين له صواب رأيهم؛ وعندما حدثت غزوة بدر الكبرى وتجلى للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أنّ قريشا خرجت للحرب استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال:(أشيروا عليّ أيها الناس)، فتكلم المهاجرون بما تكلموا به، وهو يقول: (أشيروا عليّ أيها الناس)، ثم تحدث متحدث الأنصار بما تحدث به، ولما اتفق رأي الفريقين، المهاجرين والأنصار على لقاء العدو خرج-عليه أفضل الصلاة والسلام-للقاء العدو؛ وعندما نزل صلى الله عليه وسلم منزلا ببدر سأله الحُباب بن المنذر-رضي الله تعالى عنه-قائلا له: " يا رسول الله، أهذا منزل أنزلَكَه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه أو هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ "، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(بل الرأي والحرب والمكيدة)، فقال له: " يا رسول الله، هذا ليس بمنزل، فلنأتِ إلى أقرب ماء من العدو فننزلَ به ونُغوِّر ما وراءه من العيون "، فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم صواب رأي هذا المشير، فرجع-عليه أفضل الصلاة والسلام-إلى رأيه، ونزل في المكان الذي اختاره هذا الرجل؛ وفي غزوة أُحُد نفسها استشار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين فيما يواجِه به هذه الفئة الكافرة المتحدية للإيمان، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى أن يبقوا في المدينة وأن يكافحوا الكفرة من نفس المدينة المنورة فيدفعوهم عن أنفسهم، وكان هذا رأي عبد الله بن أبيّ، وقد ذَكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل المدينة ما خرجوا لمقاومة عدوهم إلا هزموا وما بقوا مكانهم فقاوموهم من مكانهم إلا انتصروا .. هكذا كانت التجرِبات السابقة، إلا أنّ الحماس كان يملأ قلوب جماعة المؤمنين-أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم -فأرادوا أن يخرجوا، خصوصا أولئك الذين لم يُكتب لهم أن يشهدوا غزوة بدر، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأيهم مع تبيُّنِه-عليه أفضل الصلاة والسلام-أنّ الرأي ليس رأيهم، وكان صلى الله عليه وسلم متوقِّعا أمرا فيه شر من رؤيا رآها صلوات الله وسلامه عليه، فقصّها على أصحابه، وأوّلَها صلى الله عليه وسلم بأنه سيُقتل رجل من قرابته ورجال من أصحابه، ولكنه مع ذلك فإنه-عليه أفضل الصلاة والسلام-رأى أن يطبق مبدأ الشورى مهما كلفه ذلك من ثمن، ومهما وقع فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطإ، فإنّ الأخطاء الوقتية تكسب أصحابها دروسا، والمبدأ يجب ألاّ يُعطل، والرسول صلى الله عليه وسلم مثلٌ أسمى يجب على هذه الأمّة أن تحذو حذوه، فلذلك حرص صلى الله عليه وسلم مع هذا كله على تطبيق مبدإ الشورى، وخرج صلى الله عليه وسلم وعذل أصحابه بعضهم بعضا وانثنوا عن رأيهم، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعلنا أَكرهناك والوحي ينزل عليك "، فما انثنى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:(ما ينبغي لنبيّ لبس لأْمَةَ حربه أن يرجع) أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام، فأدّت الأمّة ما أدَّته من ضريبة، ولكن كان أداء هذه الضريبة سببا لأن تُدرك أخطاءها، وأن تُحوِّل مجراها فيما بعد في السياسة الحربية، كما حصل عندما رمتهم الجزيرة العربية بأفلاذ كبدها في غزوة الأحزاب فانتصر الحق على الباطل، وظهر المسلمون على عدوهم؛ وعندما نُكِب المسلمون في غزوة أحد نزل القرآن يقص على المؤمنين ما حدث، حتى أنه كان يخبرهم بما كان يختلج بين حنايا ضمائرهم، وجاءت هذه الآية الكريمة في معرض هذا السياق لأجل إقرار مبدإ الشورى، حتى لا يكون الذي حدث سببا لأن يُنسخ هذا المبدأ ويُطوى، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُكوِّن أمّة، وهذه الأمّة عليها أن تتحمل التبِعة في المستقبل، ولن تتحمل هذه التبعة إذا ما كانت تعيش تحت الوِصاية، ولكن تتحملها إذا استقلت برأيها، ومن أجل ذلك أنزل الله-تبارك وتعالى-على النبي صلى الله عليه وسلم أمرَه إياه بأن يستشيرهم مهما كلفه ذلك من ثمن.

وعدم استشارة الأمّة فيما يتعلق بمثل هذه الشؤون يؤدي بها في المستقبل إلى الشلل الفكري، ذلك لأنها تعيش تابعة غيرَ متبوعة، لا تستقل برأيها والله-تعالى-ورسوله يريدان لهذه الأمّة الاستقلال، بحيث تحاسب نفسها على أخطائها، وتتحمل تبعة هذه الأخطاء، وتتحرى الطريق الأقوم لتصل في الغاية إلى ما تصبو إليه من خير ونصر وتأييد من عند الله سبحانه وتعالى.

والحيلولة بين هذه الأمّة وبين استشارتها لأجل تفادي أن تقع في الأخطاء إنما مثله كمثل الطفل الذي يحال بينه وبين التعود على المشي حذرا من أن يقع على الأرض، فإنّ هذا الطفل ينشأ بطبيعة الحال نشأة غير نشأة الأطفال الذين تربَّوا على اعتياد المشي من أول الأمر.

وهذه الاستشارة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشيرها أصحابَه إنما هي في غير الأمور الدينية، التي يوحى إليه فيها من قِبَل الله سبحانه وتعالى ، فأمر الدين لا مجال للتشاور فيه، وكل ما نَصّ الله عليه أو نَصّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى هذه الأمّة فلا مجال للتشاور فيه .. لا مجال لأن يتشاور الناس في أن يُقِروا مبدأ إقامِ الصلاة أو لا يقروه، أو يقروا مبدأ الزكاة أو لا يقروه، أو يقروا أمر الحج أو لا يقروه، فإنّ هذه أمورا مفروغ منها، لا مجال لأن يعترِض فيها معترض، أو يشير فيها مشير:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا)[سورة الأحزاب، الآية 36]، إنما المشورة هي في الأمور العامّة التي ترجع بالخير والنفع أو بالشر والضر إلى الأمّة .. هنا تقع المشورة، وهذه الأمور-أيضا-كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يوجَّه فيها من قِبَل الله سبحانه وتعالى بوحي ظاهر أو باطن لا يتردد في أن يقبل أمر الله، ويتركَ رأي أصحابه جانبا، ولو رأوا في مسلكه غضاضة عليه، كما وقع ذلك في صلح الحديبية، فإنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسوا بالغضاضة .. أحسوا بالضَّيم في جانب هذه الأمّة من خلال النظر إلى بنود ذلكم الصلح، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان موجَّها من قِبَل الله سبحانه وتعالى رأى أنّ الخير كل الخير في ذلك الصلح، وحرَص-عليه أفضل الصلاة والسلام-على توطين نفوس أصحابه على قبوله، حتى أنه صلى الله عليه وسلم عندما اهتم بما رأى من عدم مبادرة أصحابه-رضي الله تعالى عنهم-إلى التحلل من  الإحرام  شَقَّ  عليه  الأمر،  فاستشار في ذلك أمَّ سلمة رضي الله-تعالى-عنها، فأشارت إليه بأن يبدأ-عليه أفضل الصلاة والسلام-بالحلق والتحلل، فعمل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، واندفع الناس إليه، وكاد يقتل بعضهم بعضا من الغم، وعندما أنزل الله-تعالى-على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم سورةَ الفتح المصَدَّرة بقوله عزوجل:(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا)[سورة الفتح، الآية: 1] قال عمر-رضي الله تعالى عنه-لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوَ فتحٌ هو يا رسول الله ؟ "، قال:(إِيْ وربي، إنه لَفتح وأيُّ فتح )، وقد حقّق الله لهذه الأمّة الخير الكثير من ذلك الصلح الذي رأوه في بادئ الأمر ضيما لهم وحطّا من قدرهم، وأمر الله سبحانه وتعالى نافذ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يستشير إنما كان يستشير في المصالح العامّة التي لم يوح إليه فيها بشيء، أما أمور الدين والمصالح العامّة التي وُجّه فيها من قِبَل الله-تعالى-بشيء من الوحي الظاهر أو الباطن فإنه-عليه أفضل الصلاة والسلام-ما كان يرجع فيها إلى المشورة.

وعندما نزلت هذه الآية الكريمة، وهي قول الله تبارك وتعالى:(... وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[سورة آل عمران، من الآية: 159] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنّ الله ورسوله لغنِيَّان عن ذلك، ولكنَّ الله جعلها رحمة لأمّته، فمن استشار لم يُعدِم رشدا، ومن أعرض عنها لم يعدم غيّا) .. يشير النبي صلى الله عليه وسلم في هذا إلى أنه يوحى إليه من قِبَل الله، فهو بإمكانه أن يسأل الله صلى الله عليه وسلم أن يوحى إليه في الأمر الذي لم يتبين له فيه صواب، ولكنَّ الله جعل هذه المشورة رحمة لهذه الأمّة، لتسير في هذا الطريق .. طريق الخير، الذي يجمع شتات هذه الأمّة، ويقويّ كِيانها، من خلال اجتماع رأيها على الأمر، فإنّ الاجتماع رحمة وقوة، والتفرق عذاب وضَعف.

وعلماء الإسلام قالوا بوجوب المشورة، فنجد ابن عطية-وهو من المفسرين القدامى-يقول في تفسيره: " الشورى من قواعد الدين وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير علماء الدين فعزله واجب، ولا خلاف في ذلك "، وقد نقل هذا الكلام عنه جماعة من المفسرين، من بينهم الإمام القرطبي في تفسيره الكبير " الجامع لأحكام القرآن "، وأقروه.

 

(1) أصلها في شريط سمعي بصوت الشيخ، لذلك فأسلوب الشيخ هنا هو أسلوب الإلقاء، وليس التحرير، وشتّان بين الأسلوبين، على أنّ الشيخ قد وهبه الله-تعالى-مقدرة بيانية في الإلقاء.

القسم
1
3
الكتاب
1
3