الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
فتوى البراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أهل الشكر والحمد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وجميع التابعين.
وبعد/ فإن الناس لا زالوا يتساءلون عن الأصل الذي عول عليه أصحابنا رحمهم الله في قولهم بوجوب البراءة من مرتكب الكبيرة – إن لم يتب منها- وإن كان من جملة الموحدين، وعدم استغفارهم له وترحمهم عليه، ولربما جعل بعض الناس هذا مما يعاب به المذهب، فقد انتقد أكثر من واحد ما ذكرتموه في كتابكم "الحق الدامغ" عن أبي حمزة الشاري -رحمه الله- أنه قال: "الناس منا ونحن منهم إلا مشركاً بالله عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماماً جائرا" حيث قالوا: كيف يقرن الإمام الجائر بالمشرك عابد الوثن، والكافر من أهل الكتاب، مع أن الإمام الجائر من أهل التوحيد، والمشرك والكتابي خارجان عن ملة الإسلام، فكيف يُلَزُّ معهما في قرن فيتبرأ منه كما تبرئ منهما؟! أولا يكفي أن يتبرأ من الكبيرة وحدها من غير البراءة من مرتكبها؟ وبما أن هذا الأمر التبس على كثير من الناس رأينا من الضرورة بيانه، ليكون الناس على بينة من أمرهم وبصيرة من دينهم، لذلك نرجو الإجابة عن ذلك بما يشفي الغليل؟
الجواب/
الحمد لله الذي يحتكم إلى كتابه في كل شقاق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جعل الله هديه مصدر الألفة والوفاق، وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، وعلى كل من اتبع نهجهم فاتقى مسالك الردى.
أما بعد/ فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٌ وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، واعلم أن أصحابنا رحمهم الله لم يذهبوا إلى ما ذهبوا إليه اعتباطاً، ولم يدينوا بما دانوا به عن هوى، وإنما عولوا فيما قالوه ودانوا به على بينة من كتاب ربهم، وهدي من سنة نبيهم، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، ومن عابهم فيما قالوه ودانوا به من هذا فقد عاب القرآن وعاب السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وحسبك من أمرين أحلاهما مُرّ، فإن هؤلاء إما أن يكونوا جاهلين بحكم الله وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وكفى به إثما مبينا، فإن الله قرن ذلك بالإشراك به في قوله:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(لأعراف:33) وذكر أن ذلك من أمر الشيطان حيث قال:(إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(البقرة:169) وإما أن يكونوا متعمدين مكابرة الحق، ومغالطة الدليل فيصدق عليهم قوله تعالى:(وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية146) فهم على كلا الحالين لا يخرجون عن قول الشاعر:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ذلك لأن الله سبحانه أخبر في كتابه الكريم أنه لا يرضى عن الفساق، حيث قال في الذين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الجهاد وهم أغنياء، رضىً منهم بأن يكونوا مع الخوالف:(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(التوبة: من الآية96) والآية عامة لكل فاسق وإن نزلت لسبب خاص، فإنه لا عبرة بخصوص السبب مع عموم اللفظ، ولحكمة يعلمها الله كانت العبارة على خلاف مقتضى الأصل حيث إن حكم هؤلاء لم يسلط على ضمير يرجع إليهم وإنما جرى على اسم ظاهر مع إمكان أن يقول: "فإن الله لا يرضى عنهم" ولكن بدلاً من ذلك قال:(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)للإشعار بأن فسوقهم هو علة هذا الحكم، فإن الحكم على المشتق يؤذن بأن أصل ذلك الاشتقاق علة لذلك الحكم، فحيثما وجد الفسوق كان هذا حكم من تلبس به، والفسق يصدق لغة وشرعاً على كل خارج عن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لغة بمعنى الخروج، ولذلك يقال في الرطبة إذا خرجت عن بقية الرطب فاسقة، وقد دل القرآن على فسق مرتكب الكبيرة فقد قال تعالى في أكل ما لم يذكر اسم الله عليه (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)(الأنعام: من الآية121) وقال في الذين يرمون المحصنات :(وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور: من الآية4) وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)(الحجرات:11) ومعنى هذا أن الله تعالى لا يرضى عن أي فاسق ما دام مصراً على فسوقه، غير مقلع عن غيه، ولئن كان الله لا يرضى عنه كما أخبر بنفسه، فكيف يتولى في الدين مع أن الولاية هي الحب في الله تعالى؟!.
ومما يدل على وجوب البراءة منه قوله تعالى في المؤمنين:(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)(الحجرات: من الآية7) ثم بين أن هذا هو الرشد حيث حصر الراشدين في هذا الصنف من الناس بقوله:(أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)(الحجرات: من الآية7) وليس من المقبول عقلاً ولا شرعاً أن يكره أحدٌ الكفر والفسوق والعصيان ثم لا يكره الكفار والفساق والعصاة، فإن كراهة الفعل تقتضي كراهة فاعله، وحبه يقتضي حب فاعله، فعدم كراهة هؤلاء، تعني عدم كراهة ما يصدر منهم من الكفر والفسوق والعصيان، وهذا يتنافى مع الرشد والإيمان.
وإن من أقوى الأدلة وأقطعها للسان كل مشاقق في هذا قوله تعالى:(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(هود:45-46) فهذا نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله صابراً على أذاهم، محتملاً كل عنت وشقاق لأجل دعوة ربه، يتلطف في هداية قومه بها فيجهر بها تارة ويسر بها أخرى، وظل على ذلك حتى قيل له "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن" فأيس من رشدهم ودعا الله أن يستأصلهم لقطع دابر كفرهم واستئصال شأفة شقاقهم، فحمل أهله ومن آمن معه على السفينة، ورفض ابنه الركوب معهم مؤثرا الإيواء إلى جبل يعصمه من الماء، فكان من المغرقين، وقد تلطف نوح عليه السلام في خطابه لربه بشأنه، فلم يزد على قوله:(إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(هود: من الآية45) فجاء ردُّ ربنا سبحانه وتعالى مسكتا للسانه عن أي قول في هذا إلاّ التسليم لأمر الله، إذ قال له الله تعالى:(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)(هود: من الآية46) مع أنه ابنه بشهادة وحي الله تعالى وعلل هذا الحكم بقوله سبحانه وتعالى:(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)(هود: من الآية46) ومعنى ذلك أنّ علة منعه من هذا القول ما صدر عن ابنه من عمله غير الصَّالح، وهو الذي أوبقه فكان مع الهالكين، ولتأثير هذا العمل عليه، وإحاطته به لأنه لم يتب منه حتى مات كان كأنه هو ذات العمل غير الصَّالح فأخبر عنه بنفس العمل في قراءة الجمهور برفع " عملٌ "، على أنه خبر إن ونعته بغير المضاف إلى صالح، وقرأ الكسائي –وهو أحد القراء السبعة المعتمدين- (إنه عَمِلَ غيرَ صالح) بكسر ميم "عَمِلَ" وفتح لامه على أنه فعل ماضٍ فاعله ضمير يعود إلى ابن نوح و" غيرَ " مفتوح الراء لأنه مفعوله فهو منصوب به وقد قرأ بها أربعة من الصحابة وهم علي وعائشة وابن عباس وأنس رضي الله عنهم، وروتها عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أدل على تعليل منع نوح عليه السلام مما قاله فيه لربه بما عمله ابنه من العمل غير الصالح، فكيف يسوغ مع هذا أن يدعى لفاجر -يغدو ويروح على معاصي الله الموبقة- بالرحمة والمغفرة؟
فإن قيل بأن ابن نوح عليه السلام لم يؤمن برسالة أبيه، بل كان كافراً بها، فلذلك منع نوح أن يتولاه، أو يدعو له، فلا يقاس عليه من أسلم وآمن بما جاءت به الرسل، ولكنه فسق بارتكابه الكبائر.
قلنا: ليس في القرآن ما يشير قط أنه كان جاحداً لرسالة أبيه، أو صاداً عن الإيمان بها، وإنما قصارى أمره المذكور أنه كان في معزل عن أبيه ومن معه عندما ركبوا في السفينة، وأن نوحاً عليه السلام ناداه بأن يركب معهم، وأن لا يكون مع الكافرين بهلاكه معهم، فاعتذر إليه بأنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء، فكانت هذه معصية منه استحق بها الهلاك، واستحق بها براءة أبيه والمؤمنين منه، بل مما يتبادر أن نوحاً عليه السلام لو علم منه أنه مكذب برسالته لما دعاه إلى الركوب معه، كيف وقد أخبر أنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن، على أنه مهما يكن من أمره فإن هذا الحكم إنما نيط بعمله غير الصالح، وهو دليل على أن من كان كذلك فلا تحق له الولاية في الدين وإنما تجب البراءة منه، ومما يستبعد جداً أن يذكر -في مقام الرد على أبيه وتبصيره بأنه ليس من أهله- أدنى جرائمه -وهو عمله غير الصالح- ويسكت عما هو أشد وهو جحوده لرسالة أبيه وكفره بالله تعالى لو كان ذلك هو سبب وجوب براءته منه.
هذا والقراءتان في الآية الكريمة دالتان على أن براءة نوح عليه السلام منه التي أوجبها الله عليه بقوله:(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) مع كونه ابنه والابن من أقرب الأهلين إلى أبيه لأنه بضعة منه، إنما هي معللة بما عمله من غير الصالحات، أما قراءة الكسائي فهي واضحة في ذلك، وأمَّا قراءة الجمهور فهي لا تدل إلا على ذلك، وإنما فيها مبالغة في وصفه بالعمل غير الصالح، ومثل هذا التركيب في الكلام إن تبع جملة تتضمن حكما أو مسألة لا يفيد إلا تعليل ذلك الحكم أو تلك المسألة بما دلت عليه إن وما وليها ومن استقرأ ما جاء من ذلك في القرآن وجد من الشواهد على هذا ما يتجاوز الإحصاء، من ذلك قوله تعالى:(قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(البقرة:32) فإن قولهم:(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) تعليل لقولهم:(عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) وقوله: (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(البقرة: من الآية37) فإن قوله:(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))تعليل لقوله:(فَتَابَ عَلَيْهِ) وقوله تعالى فيما يحكيه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(البقرة:127-129) فإن قولهما:(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تعليل لقولهما:(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) وقولهما:(إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليل لقولهما: (وَتُبْ عَلَيْنَا)وقولهما:(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تعليل لقولهما:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ...) وقوله:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(البقرة: من الآية143) فإن قوله:(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) تعليل لقوله:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) وقوله:(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية153) فإن قوله:(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) تعليل لقوله:(اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وقوله تعالى:(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(البقرة: من الآية168) فإن قوله:(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) تعليل لقوله:(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) وقوله:(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: من الآية173) فإن قوله:(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لقوله:(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وقوله:(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة:181) فإن قوله:(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تعليل لقوله:(فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) وقوله:( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:182) فإن قوله:(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لقوله:( فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وقوله:(وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة: من الآية190) فقوله:(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تعليل لقوله:(وَلا تَعْتَدُوا) ومثل ذلك قوله:(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة:من الآية195) وقوله:(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(آل عمران: من الآية8) وقوله:( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(آل عمران: من الآية26) وقوله:(رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)(آل عمران: من الآية38) وقوله:( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(آل عمران: من الآية119) وقوله:(وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(آل عمران: من الآية155) وقوله:(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(آل عمران: من الآية159) وقوله:(وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(آل عمران: من الآية194) وقوله:(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(النساء: من الآية1) وقوله:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً)(النساء: من الآية2) وقوله:(فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً)(النساء: من الآية16) وقوله:(وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)(النساء: من الآية24) وقوله:(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)(النساء: من الآية34) وقوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً)(النساء: من الآية35) وقوله:(فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)(النساء: من الآية76) وقوله:(وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (النساء:106) وقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)(المائدة:1) وقوله:(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)(المائدة: من الآية4) وقوله:(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(المائدة: من الآية13) وقوله:(فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة: من الآية39) وقوله:(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(المائدة: من الآية51) وقوله:(وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)(المائدة: من الآية72) وقوله:(تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(المائدة: من الآية116) فإن وما بعدها في هذه الآيات كلها تعليل لما سبقها من حكم تضمنته الجملة التي قبلها ونحو هذا في الآيات الكثيرة التي لم أذكرها.
وقد أدرك هذا السر في التعبير فرسان البيان فوظفوه في كلامهم كما أدركه رادة فن البلاغة فأوسعوه بحثاً، قال إمام البلاغة عبدالقاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" : "روي عن الأصمعي أنه قال: كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر، وكانا ياتيان بشاراً فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألان ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، وأتياه يوماً فقالا له: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في مسلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالوا بلغنا أنك كثرت فيها من الغريب، قال: نعم بلغني أن مسلم بن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا: فأنشدناها يا أبا معاذ: فأنشدهما :
بكرا صاحبيَّ قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان (إن ذاك النجاح في التبكير) "بكرا فالنجاح في التبكير" كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: "إن ذاك النجاح في التبكير".
كما تقول الأعراب البدويون، ولو قلت "بكرا فالنجاح " كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبل بين عينه. وقال الجرجاني على أثر هذه القصة: فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ ثم قال:" واعلم أن من شأن " إن " إذا جاءت على هذه الوجه أن تغنى غناء الفاء العاطفة مثلا، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمراً عجيبا، فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف، مقطوعاً موصولاً معاً، أفلا ترى أنك لو أسقطت "إن" من قوله: "إن ذاك النجاح في التبكير" لم تر الكلام يلتئم ولو رأيت الجملة الثانية تتصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل حتى تجئ بالفاء فتقول:
"بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير "
ومثله قول بعض العرب :
فغنهـا وهي لك الفداء إن غناء الأبل الحداء
فانظر إلى قوله: " إن غناء الإبل الحداء" وإلى ملاءمته الكلام قبله وحسن تشبثه به ثم انظر إذا تركت "إن" وقلت : فغنها وهي لك الفداء غناء الإبل الحداء.
كيف تكون الصورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك حتى لا تجد حيلة في ائتلافها حتى تجتلب لها الفاء فتقول فغنها وهي لك الفداء فغناء الإبل الحداء؟" اهـ.
وبهذا يتبين لك ما وضحته من إفادة قوله تعالى: إنه عمل غير صالح" تعليل الحكم الذي سبقه في وقوله: "إنه ليس من أهلك" ذلك لأن إسقاط "إن" من مثل هذا التركيب لا يؤدي إلاَّ إلى تنافر الكلامين وتفكك الجملتين حتى يفقد الكلام انسجامه ولا يعوض "إن" في مثل هذا إلاَّ الفاء الدالة على السببية مع ما يكون في ذلك من انحطاط التعبيرعن ذروته كما قال بشار وأنت تدري ما بين السببية والتعليل من التآخي والتوأمة.
فإن قيل: إذا سلم لهذا كله فلا يسلم أن هذا الحكم مشروع لنا فإن هذا الخطاب إنما خوطب به رسولٌ آخر غير الرسول الذي تعبدنا بشرعه، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا.
قلت: كلا، بل هذه من الأصول الثابتة التي تشترك فيها جميع شرائع الأنبياء، وهي مما تضمنه أمر الله لنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله:(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام: من الآية90) فإن التوحيد والأخلاق لا يطرأ عليهما النسخ، والغيرة على دين الله والغضب له تعالى من قواعد الدين التي لا تتزعزع في أي شرع وهذا ما أكده قوله تعالى:(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)(المجادلة: من الآية22) ومحادة الله كما تكون بالقول والاعتقاد تكون بالعمل والسلوك فتندرج فيها كبائر الأثم إذا أصر عليها صاحبها كيف وقد قال الله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا" ويعضد هذا موقف نبينا عليه الصلاة والسلام من أصحاب الكبائر فإنه إن لم يكن صريحاً في البراءة منهم فليس يصح في الأذهان شيء، وقد أمرنا الله بالتأسي به في قوله:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21) وهاكم صوراً من مواقفه عليه الصلاة والسلام من أهل الكبائر.
1- روى الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا ومن غشنا فليس منا ومن لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا فليس منا" وقد أخرج الجماعة إلا البخاري والنسائي عن أبي هريرةرضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاماً فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال: "من غشنا فليس منا" وفي رواية لمسلم "من
غش فليس مني".
2- أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
3- روى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وحمل التغني هنا على الاستغناء كما نص عليه الجوهري والهروي من اللغويين وأطال في الانتصار له القرطبي في تفسيره، ذلك لأن تفعل واستفعل يترادفان، كتكبر واستكبر.
4- روى أبو داود عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده".
5- روى مسلم عن عبدالرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى، وأقبلت امرأته أم عبدالله تصيح برنة قالا: ثم أفاق، قال: ألم تعلمي -وكان يحدثها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق".
ورواه مسلم أيضا عن عياض الأشعري عن امرأة أبي موسى عن أبي موسى، وعن صفوان بن محرز عن أبي موسى، وعن ربعي بن خراش عن أبي موسى، غير أن في حديث عياض "ليس منا" ولم يقل " بريء" ومؤدى اللفظين واحد.
ورواه أبو داود عن يزيد بن أوس قال: دخلت على أبي موسى وهو ثقيل، فذهبت امرأته لتبكي أو تهم به فقال لها أبو موسى: أما سمعت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: بلى، فسكتت فلما مات أبو موسى قال يزيد: لقيت المرأة فقلت لها: ما قول أبي موسى لك: أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سكت؟ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من حلق ومن سلق ومن خرق" وهذا هو لفظ عياض الأشعري عند مسلم.
6- روى أحمد قال: حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من حلف بالأمانة، ومن خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا" .
7- روى مسلم عن أياس بن سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سلَّ علينا السيف فليس منا" وأخرجه من طريق أبي موسى بلفظ " من حمل علينا السلاح فليس منا" ومن طريق أبي هريرة
بلفظ: "من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا".
8- أخرج الطبراني في كبيره عن ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من حمل علينا السلاح" .
9- روى البيهقي في الآداب عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية" .
10- أخرج الطبراني في كبيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له –أظنه قال- أو سحر أو سحر له" .
11- أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليس منا من انتهب أو سلب أو أشار بالسلب" قال: وهذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
12- روى الطبراني في كبيره عن ابن عباس قال: شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ فقال: "لا، ليس منا من خصى أو اختصى ولكن صم ووفر شعر جسدك".
13- روى أبو يعلى من طريق ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من أجلب على الخيل يوم الرهان وليس منا من خبب عبدا على سيده، وليس منا من أفسد امرأة على زوجها" .
14- في مسند الشهاب للقضاعي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله وهم يرون ريح القتار من الجيران ويرونهم يكسون ولا يكسون".
15- روى أحمد في مسنده عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال" وفي إسناده رجل مجهول ولكن متنه صحيح لاعتضاده بالأدلة الصحيحة.
16- روى الترمذي من طريق أنس صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".
17- روى أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف" وهو وإن أعل بابن لهيعة وما قيل في روايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فإن معناه صحيح لاعتضاده بالقرآن الكريم والأحاديث الصحيحة.
وأمثال هذه الروايات كثيرة وهي جميعاً تدل على براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل كبيرة، فأي ريبة تبقى من موقف أصحابنا في المصرين على الكبائر المجاهرين بانتهاك حرم الله تعالى؟!.
أما أولئك الذين عابوا أبا حمزة الشاري رحمه الله تعالى بسبب براءته من الإمام الجائر وإلحاقه إياه بالمشرك عابد الوثن والكافر من أهل الكتاب في البراءة منه فإن عيبهم إياه لا يدل إلا على جهلهم بالإسلام، لما ران على قلوبهم من ممارسة الظلم، واستولى عليهم من حب الظالمين الذين مقتهم الله ورسوله والمؤمنون، فقد بلغت بهم ألفتهم للظلم أن كانت ولاية الظالم وتأييدهم إياه وتبكيتهم لمن خالفه وبراءتهم ممن فارقه جزءاً من عقيدتهم التي بها يدينون، مع أن الله تعالى توعد بالنار على مجرد الركون إلى الذين ظلموا في قوله:(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)(هود:113) والركون هو ميل النفس كما فسره ابن عباس رضي الله عنهما، وفسره السدي وابن زيد بالمداهنة، وقال سفيان في معنى " ولا تركنوا " لا تدنوا إلى الذين ظلموا، وقال أبو العالية: "لا ترضوا أعمالهم" ومنهم من قال: "لا تجالسوهم" وهذه التفاسير وإن اختلفت ألفاظها فإن معناها واحد، لأنها تؤدي إلى غاية واحدة، وهي مجانبة أهل الظلم، وكراهة ما يصدر عنهم، وليت شعري أيكون مبايناً لهم من امتلأ قلبه غيرة عليهم حتى استنكر البراءة منهم، وعدها من معالم الضلال؟! .
فإن قيل: بأن الظلم في الآية لا يصدق على فعل أئمة الجور، وإنما هو الإشراك بالله.
قلت: هذه أدهى وأمر، فإن حصر الظلم في الإشراك بالله وهم ناشئ عما تشبعت به هذه النفوس من حب الجور والفساد، وقد أدى ذلك إلى انقلاب موازينها حتى رأت البطش بالناس وغمطهم حقوقهم وسلبهم كرامتهم الإنسانية لا ينطبق عليه وعيد الظلم، وكذلك انحراف الأخلاق، والخروج عن سواء الصراط في السلوك والمعاملات، وهذا مما أدى إلى الاستهانة بكبائر الأثم والفحشاء، على أن خير ما يبين مجملات القرآن نصوص القرآن التفصيلية، وكم فيها مما يدل على أن الظلم لا ينحصر في الإشراك، وإنما يصدق على ظلم العبد نفسه بعصيانه وظلمه لغيره بسلبه حقه الشرعي.
ومن ذلك أن الله تعالى حكى عن آدم وحواء عليهما السلام أنهما:(قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(لأعراف:23) وقال عن يونس عليه السلام :(فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(الانبياء: من الآية87) وحكى عن موسى عليه السلام أنه قال بعدما قتل القبطي:(رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)(القصص: من الآية16) ولا يدعي أحد من ذوي العقول أن هؤلاء أرادوا الاعتراف بالإشراك فإنهم لو أرادوا ذلك لكانوا في قولهم كاذبين فإن من المعلوم قطعاً أنهم لم يشركوا بالله طرفة عين فآدم وحواء ما كانا بأكلهما من الشجرة مشركين، ويونس لم يشرك بالله بذهابه عن قومه مغاضباً، وموسى ما كان بقتله القبطي مشركا، وإنما أرادوا الاعتراف بالخطيئة وقد سموها ظلما، فعلم أن الظلم ينطبق على الخطايا جميعاً، ويؤكده أن الله تعالى قال:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)(التوبة: من الآية36) ومن المعلوم أن المراد بالظلم هنا القتال في الأشهر الحرم وهو ليس بشرك قطعاً.
وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(الحجرات:11) ومن المعلوم أنه لا يعد شيء مما ذكر هنا شركا وقال:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)(الطلاق: من الآية1) والآية خطاب لأمة الإسلام في شخص نبيها عليه الصلاة والسلام ولا تعنى الشرك بحال.
ومما يدل على أن وصف الذين ظلموا في الآية الكريمة يصدق على غير المشركين أنها مسبوقة بقوله تعالى:(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(هود:1121) إذ لا يخفى على ذي بصيرة أن الأمر بالاستقامة في الآية يعنى الاستقامة على الدين بفعل أوامره وترك نواهيه والتزام حدوده كما قال الزمخشري: "فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها" وقال ابن عطية: "أمر بالاستقامة وهو عليها وهو أمر بالدوام والثبوت والخطاب للرسول وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة فالمعنى وأمرت مخاطبة تعظيم" وقد اقترن ذلك النهي عن الطغيان والمراد به العصيان كما فسره ابن زيد بقوله: "لا تعصوا ربكم" وقال الزمخشري: "لا تخرجوا عن حدود الله" وأتبع ذلك بقوله: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا" ليفيد أنهم -كما أمروا بالاستقامة وعدم الطغيان– مأمورون بمفارقة الذين لم يستقيموا على منهاج الحق فظلموا أنفسهم بالوقوع في معاصي الله والإصرار عليها، وذلك بتحذيرهم من مجرد الركون إليهم ووعيدهم بالنار إن لم يمتثلوا.
فإن جادل في هذا مجادل زاعماً أن الآية لا تنطبق على غير المشركين بدليل قوله تعالى:(إن الشرك لظلم عظيم)وقوله :(والكافرون هم الظالمون).
فجوابه: أن قوله تعالى:(إن الشرك لظلم عظيم)لا يدل بحال من الأحوال على انحصار الظلم في الشرك وإنما قصارى ما يدل عليه أن الشرك هو أعظم الظلم، ولا خلاف في هذا فإن كل عاقل يدرك أن أقبح الظلم وأشنعه وأسوأه وأرداه أن يجعل العبد لله تعالى شريكاً مع أنه الذي خلقه فسواه وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ولكن أين الدليل في هذا على أن ما دون الشرك لا يعد ظلما ولا ينطبق عليه الوعيد على الظلم؟ بل الآية نفسها دليل على أن ما دون الشرك من ضروب الشرِّ يكون ظلما أيضا، فإن الشر دركات كما أن الخير درجات، وما مثل ذلك إلا كمثل قوله:(فتحرير رقبة مؤمنة)فإنه يدل على أن من الرقاب المملوكة التي يجري فيها العتق رقابا غير مؤمنة ولكن لا يجزي عتقها في كفارات القتل، ومثله قوله تعالى:(وجاؤا بسحر عظيم)فإنه يدل على أن من السحر ما هو دون ما جاؤا به وإلاّ فما فائدة وصفه بأنه عظيم؟!.
وبهذا يتبين لك أن محاولة رد كل ظلم إلى الشرك ليست هي إلا فراراً من الواضح إلى المشكل ومن البصيرة إلى العمى، ناهيك بالأدلة الصريحة الواضحة الدالة على أن ما دون الشرك يصدق عليه وصف الظلم أيضاً وقد مضى ذكر بعضها وكفى.
أما قوله تعالى:(والكافرون هم الظالمون) فإنا –إن سلمنا إفادتها الحصر- لا نسلم أن الكفر فيها هو كفر الشرك، فإن الكفر كفران "كفر شرك" :وهو المخرج من ملة الإسلام، الذي يترتب عليه عدم التوارث، وعدم جواز تزويج من اتصف به بمسلمة، وعدم دفنه في مقابر المسلمين، وعدم مواراته على الطريقة الإسلامية، "وكفر نعمة": وهو لا يخرج من اتصف به من الملة، ولا يترتب عليه حرمانه من حقوق المسلمين في حياته ولا في مماته إلا الولاية التي هي اصطفاء موقوف على الوفاء بالواجبات واجتناب المحظورات، ذلك لأن أصل الكفر التغطية كما قال تعالى:(يعجب الكفار نباته) أي الزراع لأنهم يغطون البذر بالتراب، وقال الشاعر:
يعلو طريقة متنها متواتراً في ليلة كفر النجوم غمامها
وقال آخر:
ألقت ذُكاء يمينها في كافر
وذُكاء –بضم الذال- الشمس، وإلقاؤها يمينها في كافر غروبها لأنها تحتجب وراء الأفق الساتر لها، وقد دلَّ على هذا النوع من الكفر دلائل كثيرة من القرآن الكريم، وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فمما دلَّ عليه في القرآن قوله تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران: من الآية97) فالمراد بمن كفر هنا من ترك الحج مع استطاعته، وهو ليس بمشرك إجماعاً إن لم يجحد فرضيته، وقوله تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44) مع أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يخرج من ملة الإسلام إن كان مقرا بحكمه سبحانه، وقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(الانسان:3) وقوله في سليمان بن داود عليهما السلام :(قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(النمل: من الآية40) .
وأما الأحاديث فهي كثيرة يطول بها المقام، وقد ذكرت جانباً منها في الجزء الثاني من جواهر التفسير فراجعه، وهو في مصطلح أهل الحديث كفر دون كفر وبذلك ترجم له البخاري في صحيحه، وأفرد له مسلم في صحيحه خمسة أبواب وقد نص عليه عدد كبير من أهل الحديث ومحققي المفسرين والفقهاء وسائر علماء الأمة.
هذا وقد نص على أن المراد بقوله تعالى:(والكافرون هم الظالمون) كفار النعم السيد العلامة محمد رشيد رضا في تفسيره المنار، وهو الحق لأن التحذير من التهاون والتفريط في الإنفاق موجه في صدر الآية إلى الذين آمنوا وذلك قوله سبحانه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)(البقرة: من الآية254) ثم قال:(والكافرون هم الظالمون) فدل ذلك على أن المراد بالكافرين الذين لا ينفقون مما رزقهم الله وإلاَّ ذهب الترابط والانسجام بين أول الآية وآخرها، على أنا لو سلمنا لمن قال بخلاف هذا فإن مثل هذا التركيب وإن كان أصله دليلاً على الحصر قد يكون لقصد التأكيد والمبالغة في الوصف كما يقال: "الرجل زيد" مع أن وصف الرجولة لا ينحصر فيه وقد يكون هذا حتى مع وجود "إنما" المفيدة للحصر كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" مع نهيه عن بيع أصناف مخصوصة بجنسها متفاضلة ولو مع القبض.
وبهذا تدرك أنه لم يبق متعلق لمن حصر الظلم في الشرك، وأي ظلم بعد الإشراك بالله أسوأ من ظلم من استرعاه الله رعية فلم يرعها بنصحه ولم يحطها بعدله، ولئن كان النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن غش في سلعة يبيعها بإظهار جيدها وإخفاء رديئها حيث قال: "من غش فليس مني" أو "من غشنا فليس منا" فما بالك بمن غش الأمة بأسرها بجوره وظلمه؟! أوليس من كان كذلك أولى بالبراءة والمقت؟ بلى ولكن أكثر الناس لا يعلمون فلذلك يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.
على أن في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على فداحة ظلم الإمام الجائر، ففي صحيح البخاري من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أنه قال لعبيد الله بن زياد إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة" وفي لفظ " ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة" ورواه مسلم بألفاظ مختلفة ففي بعض الروايات: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" وفي بعضها "لا يسترعي الله رعية يموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة" وفي أخرى: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلاَّ لم يدخل معهم الجنة".
فإن قيل: سلمنا لذلك كله فما باله يقرن بالمشرك عابد الوثن والكافر من أهل الكتاب مع أنه قد باينهما بإسلامه، أما تكون لإسلامه حرمة تمنع من لزِّه معهما في قرن؟
قلـت: إنه هو الذي لز بنفسه في قرنهما، إذ رضي لنفسه مصيرهما وهو الحرمان من رحمة الله تعالى والعياذ بالله، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -ولا يعني ذلك إخراجه من ملة الإسلام إن لم ينكر ما علم من الدين بالضرورة- فرب ذي كبيرة يقرن بالمشرك وهو لا يعد في المشركين، كما قال الله تعالى:(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (*) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)(الفرقان:68-69) حيث قرن قاتل النفس بغير حق والزاني بمن أشرك بالله في الوعيد ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "مدمن الخمر كعابد وثن" رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.
على أن المدمن والزاني والقاتل –وإن قبحت كبائرهم وانتشر في الأرض فسادهم- هم دون الإمام الجائر فإنه – بما آتاه الله من نفوذ ومنحه من قوة وسلطان- هو أساس كل فساد في الأرض، وسبب كل انحراف عن الإسلام، ومصدر كل بلاء على الأمة، لأن انحرافه يتبعه انحراف من لا يحصى من الناس، وضلاله هو منشأ انقلاب موازين الأمور ومعايير الأعمال حتى يرى الناس الحق باطلاً والباطل حقاً والصلاح فساداً والفساد صلاحاً والعلم جهلاً الجهل علما فتكون الحياة كلها عفونة ونتنا ، وذلك ما أنكره أبو حمزة رحمه الله بلسانه ويده.
هذا ولم يكن أصحابنا وحدهم الذين قالوا بالبراءة من أصحاب الكبائر فإن في غيرهم من علماء الأمة من تنبه لهذا كما نجد هذا فيما قاله الفخر الرازي في "المحصول" في معرض حديثه عن الإيمان وبيانه للتنافي بين الإيمان والفسوق وقد استدل لذلك بثمانية أوجه نقتصر منها على الثالث والرابع.
فقد قال: "الثالث: قوله تعالى:(إنما المؤمنون الذي آمنوا بالله ورسوله) إلى آخر الآية ثم إن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آخر هذه الآية أن يستغفر لهم، والفاسق لا يستغفر له الرسول حال كونه فاسقاً بل يلعنه ويذمه فدل على أنه غير مؤمن.
الرابع: أن قاطع الطريق يخزى يوم القيامة والمؤمن لا يخزى يوم القيامة فقاطع الطريق ليس بمؤمن، أما الأول فلأن الله يدخله النار يوم القيامة، وكل من كان كذلك فقد أخزى، أما الأول فلقوله تعالى في وصفهم: (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وأما الثاني فلقوله تعالى حكاية عنهم:(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) ولم يكذبهم فدل على صدقهم فيه، إنما قلنا إن المؤمن لا يخزى يوم القيامة لقوله تعالى:(يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه) اهـ. وأقره على هذا الاصفهاني في شرحه المسمى "الكاشف عن المحصول".
وأنت ترى كيف نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغفر للفاسق حال كونه فاسقا بل يلعنه ويذمه وما اللعن والذم إلا عين البراءة .
هذا ومما يجب أن لا يفوتنا ذكره أن البراءة من صاحب الكبيرة لا تعني بحال إخراجه من ملة الإسلام، ولا حرمانه من حقوق المسلمين، ما عدا الولاية في الدين إلى أن يتوب، فهو معصوم الدم، لا يستباح قتله إلا بإحدى ثلاث، وهي: الردة عن الإسلام، أو الزنى بعد الإحصان، أو قتل النفس المحرمة بغير حق، وهو معصوم المال فلا يستباح ماله؛ وإن زنى أو قتل من أجل مراعاة حرمة التوحيد، ولا يمنع التناكح والتوارث بينه وبين أهل الإسلام، ويبادل السلام، ويشمت إذا عطس، ويدفن إن مات في مقابر أهل التوحيد، ويوارى بطريقة المسلمين، وإنما تبقى البراءة منه إن لم يتب، فرضا لازماً، أداء لحق الله تعالى، وحفاظاً على نظام الدين، وغيرة على حرمات الحق، وتمييزاً بين البررة والفجرة.
وهنا أمسك عنان طرف البيان بعد هذا السبح الموفق في ميدان العرفان سائلاً الله تعالى أن يلهمني وجميع المسلمين الحق ويوفقنا لاتباعه، ويجنبنا الباطل ومزالقه إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحمد بن حمد الخليلي
ليلة الجمعة 24/صفر الخير/1427هـ