القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
مختـارات الفتـاوي
-------( فارغ )-------
1- وقوف الرجل وحده خلف الصف. 2- حكم تسوية الصفوف.
السؤال : لقد وجدت جواباً للشيخ محمد بن عبد الله بن عبيدان في الصفحة 81 من الجزء الأول من «جواهر الآثار» عن وقوف الرجل وحده خلف الصف في صلاة الجماعة جاء فيه "فيه خلاف ، وبالجواز نأخذ هكذا حفظته عن أبي سعيد» ، ووجدت الشيخ صالح بن علي يميل إليه ، ووجدت عن بعض العلماء بأن إقامة الصفوف مستحبة وليست واجبة ، فما قولكم في جواز الأخذ بهذا الرأي ؟
القول بأن تسوية صفوف المأمومين في الصلاة مستحبة وليست واجبة قول مرفوض وإن قاله من قاله لمخالفته السنة الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم  - الصريحة في وجوب تسويه الصفوف ، وقد أورد القول هذا إمامنا نور الدين السالمي  - رحمه الله  - في معارجه وأتبعه قوله : "وليس بشيء ، لأنه مخالف للسنة قولاً وفعلاً" .
والأحاديث الدالة على وجوب تسوية الصفوف والتراص بين المصلين جاءت من طرق شتى ، منها الصحيح ومنها الحسن وإليكم طائفة منها :
1- أخرج مسلم والنسائي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» ووجه دلالته على وجوب التسوية أمران :
أ - الأمر بالاستواء ، والأمر للوجوب ما لم تصرفه عنه قرينة .
ب - النهي عن الاختلاف ، والنهي للتحريم ما لم تصرفه عنه قرينة أيضاً ، وقد أكد هذا النهي بذكر ما يترتب على مخالفته ، وهو اختلاف القلوب ، والنهي عن اختلافها ثابت بالكتاب والسنة .
2- أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم - ثلاثا - ، وإياكم وهيشات الأسواق» وفي رواية أبي داود والترمذي زيادة  «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» قبل قوله "وإياكم" ومراده بهيشات الأسواق ما يكون فيها من أصوات أو اختلاط .
3- روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» ، وروى مسلم عنه أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما  يسوي بها القداح ، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ، ثم خرج يوماً فقام حتى كاد أن يكبر ، فرأى رجلاً باديا صدره ، فقال «عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» ، وأخرج ذلك عنه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي ، وفي رواية عنه لأبي داود : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس بوجهه فقال «أقيموا صفوفكم - ثلاثا - ، والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم» قال : فرأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبته وكعبه بكعبه" ، وأخرج عنه أيضاً في رواية أخرى : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا إذا قمنا للصلاة وإذا استوينا كبر .
فانظر كيف كانت عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية صفوف المصلين ومباشرة ذلك بنفسه ، بجانب أمرهم بذلك بقوله ، وتحذيرهم من مخالفة ذلك بتوعدهم عليها أن يخالف الله بين وجوههم أو بين قلوبهم .
4- روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة» وهذا يعني أن صلاة من لا يسوون صفوفهم لا تتم .
وأخرج عنه البخاري ومسلم أيضاً مرفوعا « أتموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري » ، وفي لفظ «أقيموا الصفوف» ، وأخرج عنه البخاري قال : أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال «أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري» وزاد في رواية «وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه» وأخرجه النسائي أيضاً .
وأخرج عنه أبو داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال « رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق ، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يتخللكم ويدخل من خلل الصف كأنها الحذف » ، وفي رواية له : قال محمد بن الشائب صليت إلى جانب أنس يوماً فقال : هل تدري لم جعل هذا العود في القبلة ؟ قلت : لا والله ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده عليه فيقول «استووا وعدلوا صفوفكم» ، وفي أخرى : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذه بيده ثم التفت فقال «سووا صفوفكم» وأخرج عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه ، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر» وأخرج النسائي من طريقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول «استووا، استووا ، استووا ، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي» ، وفي رواية أخرى «رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق» .
5- أخرج أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ، ولينوا بأيدي إخوانكم ، ولا تذروا فرجات الشيطان ، ومن وصل صفاً وصله الله ، ومن قطعه قطعه الله ...» وأخرج منه النسائي قوله «من وصل صفاً ... إلخ.
6- روى أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية ، يمسح صدورنا ومناكبنا وهو يقول «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» ، قال : وكان يقول «إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول» ولفظ النسائي «الصفوف المقدمة».
7- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أقيموا الصف فإن إقامة الصف من حسن الصلاة» .
وبالجملة فإن الروايات في ذلك مستفيضة ، فلا مجال للعدول عنها إلى آراء الرجال ، وقد عقل الصحابة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم هذه المسألة ، فلذلك كانوا حراصا على اتباع طريقته وتطبيق سنته ، فقد أخرج مالك في الموطأ عن نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف ، فإذا جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبر ، وأخرج أيضاً عن أبي سهل نافع بن مالك الأصبحي قال : كنت مع عثمان ، فقامت الصلاة وأنا أكلمه في أن يفرض لي،  فلم أزل أكلمه وهو يسوي الحصى بنعليه ، حتى جاء رجال قد كان وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن قد استوت ، فقال لي : استو في الصف ثم كبر.
هذا وفي روايتي أنس والبراء - رضي الله عنهما - عند أبي داود دلالة على فضل الصف الأول ثم الذي يليه ثم الذي يليه ، كما أن في رواية أنس ما يدل على وجوب إتمام الصفوف الأول فالأول ، وقد وردت بكل ذلك روايات شتى منها ما أخرجه الإمام الربيع بن حبيب عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لو يعلم الناس ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يتساهموا عليه لتساهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» ورواه البخاري مع اختلاف يسير في لفظه وتقديمه وتأخيره في جمله ،
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «لو يعلمون- أو تعلمون - ما في الصف الأول لكانت قرعة» ، وروى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على الصف الأول ثلاثا ، وقال «لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار ، » وروى النسائي من طريق العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على الصف الأول ثلاثا ، وعلى الصف الثاني واحدة .
وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في أصحابه تأخراً ، فقال لهم : «تقدموا فأتموا بي ، وليأتم بكم من بعدكم ، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ، » وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال : يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف».
وكثيراً ما رأينا عوام الناس لا يبالون أن يصفوا صفاً ثانياً وثالثاً ورابعاً قبل أن يتموا الصف الأول ، وهذا من جهلهم بالسنة وعدم مبالاتهم بالخطأ في الدين، وكثيراً ما رأيناهم يرجحون مياسر الصفوف على ميامنها ، مع ما استقر في الإسلام من ترجيح الميامن ، وقد كان من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حب التيامن ، وروى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف» .
وأعظم من ذلك خطأ وأشد مخالفة للسنة عدم التزامهم إنشاء الصفوف وراء الإمام ، فكثيراً ما يبدأون الصف الثاني والثالث في طرف الصف وغالب بدايتهم من الطرف الأيسر إمعاناً في مخالفة السنة ، وإرضاء الشيطان - والعياذ بالله - والسنة صريحة في توسيط الإمام فقد روى أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» ، وأفظع من ذلك كله أن يدخل أحدهم المسجد فيرى الجماعة قائمة ، وفي الصف الذي أمامه متسع ، ولكن تأبى عليه نفسه أن يخطو خطوات يسيرة ليقف في الصف مع المصلين ، وإنما يقف صفا وحده، فيأتم بالإمام ولا يبالي أن يقف وراء الصف على اليمين أو على اليسار ، وصلاة مثل هذا باطلة ، بل تبطل - على الصحيح صلاة - من يقف صفاً وحده ، ولو لم يجد متسعاً في الصف الذي بين يديه وكان مستقبلاً لظهر الإمام ، لما رواه أصحاب السنن - وصححه أحمد وابن خزيمة - عن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد صلاته ، وروى نحوه ابن خزيمة وابن حبان من حديث علي بن شيبان ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال « لا صلاة لمنفرد خلف الصف» ، وقد شدد في ذلك بشير بن المنذر - رحمه الله - وهو أحد حملة العلم إلى عمان - فقد روى عنه هاشم بن غيلان أنه سئل عن رجل دخل والناس في صلاتهم فقام خلفهم وحده ولم يجر أحدا ، ولم يدخل في الصف وصلى بعض صلاته ، ثم جاء واحد فقام معه ؟ فقال بشير: صلاة الأول فاسدة وصلاة الداخل معه فاسدة ، لأنه صلى مع رجل لا صلاة له. قال: هاشم فأخبرت بذلك سليمان - يعني ابن عثمان - فقال : الذي دخل أصلح للأول صلاته ، وتعقبه الإمام السالمي - رحمه الله - بقوله : إن دخل بعد أن أحرم فلا صلاح ، وكيف يصلح الفاسد ؟ وإن دخل قبل أن يحرم فلا فساد أصلاً.
وقال بعض علمائنا : إن تعذر عليه أن يجر معه أحداً فليلتصق بالصف في قيامه ، فإذا أراد الركوع والسجود تأخر بقدر ما يمكنه الركوع والسجود، فإذا انتهى منهما عاد إلى موقفه الأول ملتصقاً بالصف ، قال الإمام نور الدين السالمي : وإنما أمروه بذلك لوجوب الصف عليه ، ولأنه منهي عن المقام وحده،  ولم يمكنه الصف ، فأمروه أن يلزق بالصف حال القيام ، ثم يتأخر للركوع والسجود لتعذرهما عليه إلا بالتأخر ، فإذا قام لصق بالصف مرة أخرى لوجوب الصف عليه ، وهو وجه من الحق ولا يشبه اللعب ، خلافاً لزاعم ذلك . ورخص له بعضهم أن يبقى مكانه بعد ركوعه وسجوده ، من غير أن يعود إلى الالتصاق بالصف ، وقيل : يجوز له أن يقف صفا وحده في حال الضرورة ، بشرط أن يكون مستقبلاً للإمام ، ورخص له بعضهم ولو وقف على جانب ، وهذان القولان مردودان بحديثي وابصة وعلي بن شيبان المتقدمين .
احتج المرخصون بحديث أبي بكرة عند البخاري وهو أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال «زادك الله حرصا ولا تعد» ، ووجه الاحتجاج به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة وقد ركع دون الصف ، والركوع جزء من الصلاة ، وما جاز في الجزء جاز في الكل ، وحمل هؤلاء الأمر بالإعادة في حديث وابصة لأجل ارتكاب ، المكروه وقال بعضهم إنما أمره بإعادة الصلاة تغليظاً وتشديداً .
وتعقب ذلك الإمام السالمي بقوله : ولا معنى للوجهين ، لأن الأمر بالإعادة دليل النقض لا الكراهية ، وليس الإغلاظ في تكرار الصلاة، وإنما الإغلاظ في المبالغة في الزجر، على أن الجمع بين الحديثين ممكن بطريق أولى وأسهل ، وذلك أن تحمل حديث أبي بكرة على الفعل قبل ثبوت النهي، وتحمل حديث وابصة عليه بعد ثبوت النهي ، فإن القدوم على الفعل قبل النهي عنه لا يفيد فسادا ، بخلافه بعد النهي - عند من جعل النهي دالا على الفساد -.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح : واستنبط بعضهم من قوله "لا تعد" أن ذلك الفعل كان جائزاً ثم ورد النهي عنه بقوله "لا تعد" ، فلا يجوز العود إلى ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
هذا ومن غرائب استدلال المجيزين ، ما استند إليه طائفة من أهل العلم منهم ابن بطال في دعوى الجواز ، وهو صلاة أم سليم خلف الصف ، كما في حديث أنس عند الربيع والشيخين وغيرهم ، وقد تعقب استدلالهم ابن خزيمة بقوله : لا يصح الاستدلال به ، لأن صلاة المرء خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق من يقول تجزئه أو لا تجزئه ، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها باتفاق ، فكيف يقاس مأمور على منهي ؟
بهذا تبين لك أن الصحيح وجوب تسوية الصفوف وتراصها ، وعدم جواز وقوف الرجل وحده خلف الصف ، والله أعلم ، وبه التوفيق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .