القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
مختـارات الفتـاوي
-------( فارغ )-------
المفاضلة بين القراءات القرآنية
السؤال : نرجو أن تبسطوا لنا القول في مسألة قراءة "مالك" في قوله تعالى {مالك يوم الدين} وأي القراءتين أفضل بالألف أم بدونها ؟ وما الدليل الذي اعتمد عليه صاحب كل قول ؟ وما هو الراجح عندكم ؟

اعلم أن من اختار قراءة من القراءات السبع فقرأ بها في الصلاة أو خارجها لم ينكر ذلك عليه ، ولا يكون ذلك مخلاً بصلاته لشهرة هذه القراءات وصحة أسانيدها وتلقي الأمة لها بالقبول ، إلا من شذ ، ولم يكن خلافه مخلاً بما انعقد عليه الإجماع ، وقد أفردت مؤلفات خاصة بهذه القراءات كما فعل ذلك الإمام الشاطبي في منظومته ، وألحق جماعة من أهل العلم - من بينهم الإمام الجزري - بها بقية القراءات العشر ، وعليه فما زاد على السبع من قراءات الثلاثة القراء الذين هم بقية العشرة المشهورين له نفس الحكم من جواز القراءة في الصلاة وغيرها ، ومما لا خلاف فيه بين أهل العلم أن قراءتي "ملك" و"مالك" في الفاتحة قراءتان سبعيتان متواترتان ، فبالمد قرأ عاصم والكسائي من السبعة ويعقوب وخلف - في مختاره - من بقية العشرة ، وقرأ سائرهم بعدمه ، وعزا جماعة من المحدثين والمفسرين كل واحدة من القراءتين إلى عدد من الصحابة والتابعين ، كما بينته في "جواهر التفسير" بتفصيل لا يحتمله المقام. ولئن كانت القراءتان متواترتين فلا داعي إلى المفاضلة بينهما ، لأن كل واحدة منهما حق لا يحتمل الباطل وصواب لا يشوبه الخطأ ، لذلك عدلت عن الخوض في ترجيح إحدى القراءتين - وإن اقتحم لجة هذا الأمر جماعة من العلماء المحققين - وما أراهم إلا أنهم اعتنوا بما لا طائل تحته إلا الإطالة في البحث، ولا بأس بإيراد ملخص ما جاءوا به مع اختلافهم في ذلك إلى مذهبين : فريق ذهب إلى ترجيح قراءة "ملك" بدون ألف ، ومن هؤلاء المبرد وأبو عبيد من علماء العربية ، وطائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والزمخشري والسيد الجرجاني والقرطبي وقطب الأئمة والإمام أبي نبهان والسيد محمد رشيد رضا ، وفريق آخر ذهب إلى ترجيح قراءة "مالك" ومن هؤلاء أبو حاتم وابن العربي وابن عطية والشوكاني والإمام محمد عبده .
احتج الفريق الأول وهم المرجحون لقراءة "ملك" بدون ألف بما يلي :
1-  أن قراءة "ملك" هي قراءة أهل الحرمين وهم أجدر بالاتباع ، إذ هم أحرى أن يقرأوا القرآن غضا طريا كما أنزل .
واعترض بأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان ، لأنه لو سلم أن أوائلهم أعلم بالقرآن لم يسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ، ثم إنه لا فارق بين القراءة والرواية ، مع أنه مما اتفق عليه المحدثون وغيرهم أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك مع أن مالكا هو عالم المدينة ، على أن كلتا القراءتين متواترتان كما سبق ، وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة .
وقول بعضهم : لا يخفى أن أهل الحرمين قديماً وحديثاً أعلم بالقرآن والأحكام ، غير مسلم ، إذ لو كان كذلك لقدمت روايتهم على كل رواية ، وكان رأيهم أولى بالاعتبار دون أي رأي ، على أنه سبقت الإشارة بأن الروايات التي نقلها المحدثون وأثبتها المفسرون تفيد أن قراءة "مالك" هي قراءة كثير من أكابر الصحابة - رضوان الله عليهم - بل هي معزوة إلى العشرة السابقين منهم ، وقد بسطت ذلك في جواهر التفسير .
2- أن قراءة "ملك" تعتضد بقوله تعالى - في وصف يوم الدين - { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر : 16].
واعترض بأن ذلك يمنعه قوله سبحانه {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا } [الانفطار : 19] وهو وصف لذلك اليوم نفسه ، ونفي المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له لأن السياق لبيان عظمته تعالى ، ويعضده قوله إثره "والأمر يومئذ لله" إذ المقصود بالأمر واحد الأمور لا الأوامر .
3- أن قراءة "ملك" تنطبق مع قوله تعالى "ملك الناس" وهو في سورة الناس التي هي آخر القرآن ترتيباً .
واعترض بأن ما في سورة الناس يختلف عما في سورة الفاتحة ، لأنه لو قرئ هنالك "مالك الناس" لتكرر معناه مع ما في "رب الناس" وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام .
4- أن نفوذ الملك أعم من نفوذ المالك .
واعترض بأن ذلك غير مسلم ، بل بينهما العموم الوجهي وذلك ظاهر في الملك الذي يشمل سلطانه مدينة فيها كثير من الناس والممتلكات ولكن لا مِلك - بالكسر - له فيها فهو ملك غير مالك بالنسبة إليها ، وأصحاب المِلك - بالكسر - هم الذين يتصرفون فيما يملكون دونه .
5- أنه يلزم على قراءة "مالك" نوع تكرار لأنه بمعنى الرب .
واعترض بأن دعوى التكرار مدفوعة ، لأن كل واحد من الوصفين أضيف إلى ما لم يضف إليه الأخر فاستقل كل منهما بفائدة ، على أنها لو سلمت فهي لازمة على قراءة "ملك" ، بناء على ما ذكره الجوهري من تفسير الرب بالملك ومن شواهده قوله النابغة :
تخب إلى النعمان حتى تناله       فدى لك من رب تليدي وطارفي
وقول الآخر :
وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي      وقبلك ربتني فضعت ربوب 
6- أن الله سبحانه وصف ذاته بالملك ممتدحاً بذلك في قول "مالك الملك" والمِلك متصرف المُلك- بالضم- بخلاف المالك فأنه من المِلك - بالكسر- ، واعترض بأن قوله تعالى "مالك الملك" أدل على المالكية منه على الملكية، فإن إضافة مالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من المُلك ، لأن الملك - بالضم - هو مما اشتملت عليه مالكيته .
واحتج الفريق الثاني - وهم المرجحون لقراءة "مالك" بما يلي :
1- أن في قراءة "مالك" حرفاً زائداً ، ولكل حرف في التلاوة عشر حسنات ، فقد أخرج البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم - وصححاه - عن  ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها ..." وهو يفيد أن قراءة "مالك" أكثر ثوابا.
2-أن المالك أقوى تصرفاً في ملكه من الملك في ملكه ، لأن الملك هو الذي يدير شئون رعيته العامة ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة ، قال الإمام محمد عبده (وإنما تظهر هذه التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون السلطان).
3- أن المِلك ملك للرعية والمالك مالك للعبيد ، والعبد أدون حالاً من  الرعية فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية ، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك .
4- أن الرعية بإمكانهم التخلص عن كونهم رعية ملِكهم باختيارهم أنفسهم وذلك بانتقالهم عن مملكته إلى مملكة أخرى وانتمائهم إلى جنسية سياسية غير جنسيتهم السابقة ، وهو متعذر في المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه أن يكون مملوكاً لمالكه ، وهو يدل على أن القهر في المالكية أكثر منه في الملكية .
5-أن المملوك مطالب بخدمة المالك وليس له أن يستقل بأمره دونه ، ولا يجب على الرعية خدمة الملك ، وهو دليل على أن الانقياد والخضوع في    المملوكين أبلغ منهما في الرعايا . 
6-أن المالك له الحق في بيع مملوكه ورهنه بخلاف الملك ، فلا يحق له بيع رعيته .
7-أن المالك يضاف إلى العاقل وغيره فيقال مالك الناس والدواب والشجر والأرض والمتاع ، وأما المِلك فلا يضاف إلا إلى العقلاء كالناس ، اللهم إلا أن يكون على طريق المجاز ، وهو دليل بارز على أن المالكية أبلغ في السلطة وأقوى في النفوذ ، فإن للعقلاء حرية في التصرف والاختيارليست لغيرهم، فضلاً عما يفيده الشمول من عمق المعنى .
هذا ولا أظنك مع أقل نظرة وإمعان تخفى عليك قوة الوجوه التي رجحت بها قراءة "مالك" على الوجوه التي تقابلها ، فقد شاهدت كيف أخذت تلك الوجوه التي رجحت بها قراءة "ملك" تتساقط أمام الاعتراضات التي وجهت إليها حتى لم يبق منها وجه سالم من الاعتراض ، بينما ظلت هذه الوجوه شامخة الأنوف لم يحم حولها أي اعتراض ، ومع ذلك كله فإني لا أجد داعياً إلى كل هذا البحث كما أسلفت من رأيي ، إذ إن القراءتين متواترتان صحيحتان بالإجماع ، وقد قرأ بكل واحدة منهما من قرأ بها من القراء المجمع على صحة قراءتهم وجواز الصلاة بها ، على أن أي قارئ أخذ يقرأ بإحدى القراءات السبع أو العشر كان عليه أن يراعي جميع مفرداتها ، وأن يحافظ على كيفية أدائها ، ليكون قد وفاها حقوقها ، فمن كان يقرأ بقراءة نافع مثلاً - كما هو المتبع عند أهل المغرب سواء اعتمد رواية ورش أم قالون - فمن حقه أن يقرأ "ملك" بدون مد، وهكذا لو قرأ بقراءة أبي عمرو أو ابن عامر أو حمزة أو ابن كثير ، أما إن كان يقرأ بقراءة عاصم كما هو المتبع في بلاد المشرق - ومن بينها بلادنا عمان -  فليقرأ "مالك" بالمد المتكون من حركتين حتى لا يشذ عن القراءة التي انتهجها، أما أن يقرأ بقراءة أحد القراء ثم يأخذ ينتقي بعض الحروف من القراءات الأخرى فهو مما لا يقر عند علماء المقارئ ، فقد ذكروا فيمن أراد أن يقرأ بأكثر من قراءة ثلاثة أوجه :
أولها : أن يقرأ القرآن كله بإحدى القراءات مع مراعاة ما تستلزمه ، فإذا فرغ بدأ في تلاوته بقراءة أخرى حتى يأتي على جميع القراءات السبع أو العشر أو ما أراده منها .
ثانيها : أن يقرأ السورة بقراءة أحد القراء ، فإذا فرغ منها أعادها بما يريد   القراءة به من القراءات وهكذا حتى يختم القرآن كله .
ثالثها : أن يكرر الآيات آية آية كل آية يقرأها بكل ما يريد القراءة به من القراءات السبع أو العشر ، وهكذا يصنع في جميع القرآن .
أما أن يخلط ما بين القراءات في التلاوة الواحدة ، بحيث يقرأ هنا بقراءة عاصم مثلاً ، ويقرأ هناك بقراءة الكسائي أو حمزة أو نافع أو أبي عمرو أو ابن عامر أو ابن كثير أو أبي جعفر أو خلف أو يعقوب فذلك مما لا يقر عند ذوي الاختصاص بعلوم القراءات ، لأنه يؤدي إلى عدم انضباط التلاوة ، بل يؤدي إلى أن تتعدد القراءات إلى أن تفوت الحصر ، وبما أنك كسائر أهل عمان تتلو القرآن برواية حفص عن عاصم اتباعاً لما في المصاحف المنتشرة بيننا أرشدتك إلى أن تلتزم ذلك في قراءة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة : 4] لئلا تشذ عن النهج المتبع عند القراء.
أما لو علمتك تتلو بقراءة نافع مثلاً - كما هو الحال في بلاد المغرب - لنصحتك أن لا تقرأ إلا "ملك" بدون مد لتكون غير خارج عن قراءة نافع ، ولكن أنى لك بقراءة نافع ، وهي من حيث الأداء تختلف عما ألفناه ، ففيها تفخيم اللام في نحو الصلاة ، وضم ميم الجمع إن وليتها همزة كما في قوله تعالى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران : 164] ، وتشديد ذال يكذبون في قوله تعالى { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة : 10] بدلاً من التخفيف الذي نقرأ به ، وضم سين سّد في قوله {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف : 93] ، وكذلك قوله {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس : 9] بدلاً من فتحها في قراءتنا ، وكذلك قرأ "فدية طعام مساكين" بالجمع بدلاً من "مسكين" بالافراد في قراءتنا، وبتشديد الدال في "عدلك" من قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار : 7]  وقراءتنا بالتخفيف ، وقرأ أيضاً نشرا - بالنون من الباء - في قوله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [الأعراف : 57] ومثل هذا كثير .
هذا وقد أسفت أن وجدت أكثر أهل عمان فيما مضى لم يلتزموا قراءة قاريء معين في جميع القرآن ، إذ كانوا يقرأون "ملك يوم الدين" بقصر الميم من ملك، مع أن تلاوتهم في سائر القرآن بقراءة عاصم المتبعة عند أهل المشرق ، ومما يقرب من ذلك عدم التزامهم رواية حفص عن عاصم في موضع آخر وهو واو "كفوا" فانهم يهمزونها فيقرأونها " كفؤا " ، ولا ريب أن في قراءتها ثلاثة أوجه: ضم الكاف والفاء مع الهمزة في آخره ، وبه قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ، إلا أن أبا جعفر سهل الهمزة وقرأها الباقون بالتحقيق مع اختلاف في الروايات عنهم أو عن بعضهم . وضم الكاف مع اسكان الفاء والهمزة ، وهي قراءة حمزة ويعقوب . وبضمها مع إبدال الهمزة واوا وهي قراءة حفص عن عاصم . وبما أننا نلتزم في سائر القرآن رواية حفص عن شيخه عاصم بن أبي النجود لا ينبغي لنا العدول عن ذلك  ، هذا ما أردت بيانه ، والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .