القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
حقيقةُ الإيمانِ
بتاريخ 23 نوفمبر 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حقيقةُ الإيمانِ

 

الحمدُ للهِ الذي جعلَ الإيمانَ أماناً للمؤمنين ، ودليلاً على الصالحاتِ للعاملين ، وسبيلاً للسعادةِ في يومِ الدِّين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعْ اللهَ ورسولَه فقَدْ رشدَ ، } وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا { ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه ، وصفيُّه من خلقِه وخليلُه ، أرسلَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَه على الدِّينِ كلِّه ولو كرِهَ المشركون ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعْدُ :

    فيا عبادَ اللهِ :

     } اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ { ( آل عمران/102 ـ 103) ، واعلمُوا أنَّ الاعتصامَ بحبلِ اللهِ لا يكونُ إلا بالاستمساكِ بالعُروةِ الوُثقى التي هي الإيمانُ باللهِ واليومِ الآخرِ ، وبكلِّ ما أوجبَ اللهُ سبحانه وتعالى الإيمانَ به من أركانِ الإيمانِ ، والإيمانُ ليس مجرّدَ نظرياتٍ تدورُ بالنفسِ ، وإنما هو عقيدةٌ راسخةٌ في النفسِ ، عقيدةٌ لا يطرقُها الارتيابُ ، ولا ينالُ منها الاضطرابُ، عقيدةٌ تستحكِمُ في النفسِ ، وتتعمّقُ في القلبِ ، وتسيطرُ على العقلِ ، وتوجّهُ الجوارحَ لطاعةِ اللهِ سبحانه وتعالى ، فالمؤمنُ حقّاً لا يرضى أن تكونَ هناك مفارقاتٌ بين عقيدتِه وبين واقعِه العمليِّ ، ولا بين عقيدتِه وبين واقعِه الاجتماعيِّ ، ومِن هنا نرى في كتابِ اللهِ تعالى ما يدلُّنا على حقيقةِ الإيمانِ من خلالِ وصفِه سبحانه وتعالى للمؤمنين ، فاللهُ عزَّ وجلَّ يقولُ : } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ { ( الحجرات/15)، ويقولُ سبحانه وتعالى : } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ { ( الأنفال/2 ـ 4) ، ويقولُ تباركَ وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم : } قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { ( المؤمنون/1 ـ 11) ، هذه الآياتُ الكريمةُ تدلُّنا على أنّ الإيمانَ ـ كما قلتُ ـ عقيدةٌ راسخةٌ في النفسِ ، مهيمنةٌ على العقلِ والقلبِ ، والمشاعرِ والوِجدانِ ، عقيدةٌ تتحكّمُ في نفسِ الإنسانِ حتى تجعلَه يسخّرَ جميعَ أعمالِه لحسَبِ ما تقتضيه هذه العقيدةُ ، عقيدةٌ تجعلُ الإنسانَ لا يرضى بحياةِ الجاهليةِ من حولِه .

      ولذلك لا يقِفُ أمرُ المؤمنِ عند إصلاحِ نفسِه فحسب ؛ بإقامِ الصلاةِ ، والإنفاقِ كما أوجبَ اللهُ تعالى عليه من رزقِ اللهِ ، واجتنابِ محارمِ اللهِ ، بل يحرصُ المؤمنُ بجانبِ ذلك على أن يكونَ الناسُ سائرين في هذا المنهجِ القويمِ ، مستقيمين على هذا الصراطِ المستقيمِ ، ولذلك جاء في وصفِ المؤمنين الجهادُ بالأنفسِ وبالأموالِ في سبيلِ اللهِ ، وذلك لأجلِ إقامةِ الحياةِ الإسلاميةِ ، ولأجلِ توجيهِ الناسِ إلى طريقِ اللهِ تعالى الذي يؤدي إلى مرضاتِه عزَّ وجلَّ ، والنبيُّ  صلى الله عليه وسلم  أخبرنا أنَّ الإيمانَ ليس مجرّدَ تمتماتٍ يُتمْتِمُها بلسانِه ، وإنما الإيمانُ منهجُ حياةٍ ، فقد قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « الإيمانُ بضعٌ وستون ـ وفي روايةٍ بضعٌ وسبعون ـ شعبةً ، أعلاها كلمةُ لا إلهَ إلا اللهُ ، وأدناها إماطةُ الأذى من الطريقِ » ، فإماطةُ الأذى من الأمورِ التي يراها الإنسانُ عاديةً حسَبَ مألوفِ الناسِ ، ولكنَّ اللهَ سبحانه وتعالى جعلَ لهذا العملِ وزناً كبيراً عنده ، إذْ جعلَه شُعبةً من شُعَبِ الإيمانِ ، ويقولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « لا يؤمنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه » ، وهذا يعني أن تكونَ بين المؤمنين وحْدةُ المشاعرِ والأحاسيسِ ، وحْدةُ المبادئِ والأهدافِ ، وحْدةُ الآلامِ والآمالِ ، فيُحِسُّ المسلمُ بأحاسيسِ سائرِ المسلمين ، ويقولُ الرسولُ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حلاوةَ الإيمانِ : أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما ، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ ، وأن يكرَهَ أن يعودَ في الكفرِ كما يكرهُ أن يُقذفَ في النارِ » ، ويقولُ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ : « لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه مِن والدِه وولدِه والناسِ أجمعين » ، وفي روايةٍ أخرى عنه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ : «والذي نفسِي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه » .

       وهذا يعني أن تكونَ أحاسيسُ النفسِ نتيجةً لهذا الإيمانِ ، تُعبِّرُ عنه ، وتصدِّقُها بجانبِ ذلك الأعمالُ الصالحةُ ؛ فإنّ محبةَ اللهِ عزَّ وجلَّ تستدعي طاعتَه ، ومحبةَ الرسولِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ تستدعي طاعتَه ، فإنّ الإنسانَ مع مَن أحبَّ ، وإذا كان مِن شأنِ الإنسانِ أن يُسارِعَ في هوى أحبابِه مِن الناسِ ؛ فكيفَ إذا كان محباً للهِ تعالى الذي برَأَه فسوّاه في أحسنِ تقويمٍ ، ومنَّ عليه بالآلاءِ الظاهرةِ والباطنةِ ، وكيف بمحبةِ الرسولِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ الذي هو أعظمُ البشرِ منزلةً ، وأرفعُهم قدْراً ، والذي جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى مفتاحاً للهدى وباباً للخيرِ ، فالناسُ جميعاً ما عرَفُوا الهدى إلا من طريقِه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ ، لذلك كانت متابعتُه  صلى الله عليه وسلم  عنواناً على الإيمانِ ، ومِن هنا جاءت متابعتُه  صلى الله عليه وسلم  في الكتابِ العزيزِ واقعةً بين قُطْرَيْ محبةِ العبادِ للهِ ومحبةِ اللهِ للعبادِ ، فقَدْ قالَ اللهُ سبحانه وتعالى : } قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ { ( آل عمران/31) .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصُوا على هذا الإيمانِ الذي تنبِضُ به قلوبُكم ، وتُحِسُّ به مشاعرُكم ، وتصدِّقُه أعمالُكم ، فإنَّ الإيمانَ ليس بالتمنّي ، ولكنْ ما وقَرَ في القلبِ ، وصدّقَه العملُ ، واحرصُوا على أن تصدِّقُوا هذا الإيمانَ بكلِّ ما تأتونه ، وبكلِّ ما تذرونه بحيثُ تكونُ أعمالُكم كلُّها ترجمةً لهذا الإيمانِ ؛ بحيثُ تكونُ مُطابِقةً لتشريعِ اللهِ سبحانه وتعالى . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاسْتغفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادْعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*          *            *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعْدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     إذا كانَ قيامُ الأجسامِ بالأرواحِ فإن قيامَ الأرواحِ بالإيمانِ ، ذلك لأنّ الإيمانَ هو الذي يحلُّ ملغزاتِ هذه الدنيا ، ويكشِفُ جوانبَها المُتعَتِّمةَ على عقلِ الإنسانِ ، ويفتحُ للإنسانِ نوافذَ ليُطِلَّ على عوالمِ الغيبِ ، فبالإيمانِ يعرِفُ الإنسانُ ربَّه تعالى ، وبالإيمانِ يتصلُ الإنسانُ بالملأِ الأعلى ، وبالإيمانِ يعرِفُ الإنسانُ مصيرَ البشرِ يومَ القيامة ، فيعملُ بحسّبِ ما يقتضيه الواجبُ الذي فرضَه اللهُ سبحانه وتعالى عليه ، وبحسَبِ ما تقتضيه به مصلحتُه في الدارِ الآخرةِ التي إليها الترحالُ ، والإيمانُ هو الذي ينتزِعُ من القلوبِ السخائمَ والأحقادَ ، ويوحِّدُ بين مشاعرِ المؤمنين كما يدلُّ على ذلك قولُ الرسولِ  صلى الله عليه وسلم  : « المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشدُّ بعضَه بعضاً » ، ويقولُ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ : « مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثَلِ الجسدِ ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمّى والسهرِ » .

    فاحْرِصُوا رحمَكم اللهُ على ترسيخِ جذورِ الإيمانِ في قلوبِكم ، وأشعلُوا شُعلتَه في عقولِكم لتستنيرَ هذه العقولُ بنورِه ، ولتستَمِدَّ من هذا الضياءِ الذي يبيّنُ لها طريقَ الحقِّ ، واسلكُوا طريقَ الإيمانِ في كلِّ تصرفاتِكم وفي كلِّ أعمالِكم ، في حالِ غضبِكم وفي رضاكم ، في حالِ مكرهِكم وفي منشطِكم ، وليكُنْ عطاؤكم ومنعُكم بحسَبِ ما يقتضيه الإيمانُ ، ورضاكم وسخطُكم بحسَبِ ما يقتضيه الإيمانُ ، وجميعُ تصرفاتِكم بحسَبِ ما يقتضيه هذا الإيمانُ .