القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
حرمةُ الربا بجميعِ صورِه
بتاريخ 10 ديسمبر 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

حرمةُ الربا بجميعِ صورِه

 

الحمدُ لله ذي الجلالِ والإكرامِ ، وشارعِ الحلالِ والحرامِ ، الذي له ملْكُ السماواتِ والأرضِ ، وله في عبادِه حقُّ المنْعِ والفرضِ ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، من يُطِعِ اللهَ ورسولَه فقد رشدَ ، } وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا { ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ بالمحجّةِ البيضاءِ ، والطريقةِ السواءِ ، والشريعةِ الحنيفيةِ السمحاءِ ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمةَ ، وكشفَ الغمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ من اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّين ، أما بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     اتقوا اللهَ ، واعلموا أنَّ اللهَ فرضَ فرائضَ فلا تضيِّعُوها ، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها ، وسنَّ سُنناً فلا تبدّلوها ، وشرعَ أحكاماً فلا تُهمِلوها ، وقد بيّنَ رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  بيانَ الحلالِ والحرامِ حيثُ قالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « الحلالُ بيّنٌ ، والحرامُ بيّنٌ ، وبينهما أمورٌ مشتبِهاتٌ لا يعرفُهنّ كثيرٌ من الناسِ ، فمن اتقى الشُّبُهاتِ فقد استبرأَ لدينِه وعرضِه ، ومن وقَعَ في الشُّبهاتِ فقد وقعَ في الحرامِ ؛ كالراعي يرعى حولَ الحِمى يوشكُ أن يقعَ فيه ، ألا وإنَ لكلِّ ملكٍ حِمى ، ألا وإنَّ حِمى اللهِ محارمُه ، ألا وإنَّ في الجسدِ لمضغة إن صلحَتْ صلحَ الجسدُ كلُّه ، وإنْ فسدَتْ فسدَ الجسدَ كلُّه ، ألا وهي القلبُ » ، وقد جاءَ أيضاً في الحديثِ الصحيحِ عن الرسولِ  صلى الله عليه وسلم  أنه قالَ : « ضربَ اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبيْ الصراطِ سورانِ فيهما أبوابٌ مفتّحةٌ ، وعلى الأبوابِ ستورٌ مرخاةٌ ، وعلى بابِ الصراطِ داعٍ يقولُ : يا أيُّها الناسُ ادخلوا الصراطَ جميعاً ، ولا تفرّقوا ، وداعٍ يدعو من فوق ، فإذا أرادَ أحدٌ أن يفتحَ شيئاً من تلك الأبوابِ قال له : ويحَك لا تفتحْه ؛ فإنك إنْ تفتحْه تلجْهُ ، فالصراطُ دينُ اللهِ ، والسورانِ حدودُ اللهِ ، والأبوابُ المفتّحةُ محارمُ اللهِ ، والداعي كتابُ اللهِ ، والداعي من فوق واعظُ اللهِ في قلبِ كلِّ مسلمٍ » ، وقد حذّرَ اللهُ سبحانه وتعالى من التقوّلِ في الأمورِ التي شرعَها اللهُ تعالى بغيرِ ما أنزلَ ، فقد قالَ عزَّ مِن قائلٍ : } وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ { ( النحل/116) ، فالحلالُ ما أحلَّ اللهُ تعالى في كتابِه ، والحرامُ ما حرّمَ اللهُ تعالى في كتابِه ، وليس لأحدٍ أيّاً كان أن يُحلِّلَ شيئاً أو يُحرِّمَ شيئاً من تلقاءِ نفسِه وعلى حسبِ هواها ، بل لم يجعلِ الله ذلك لخيرِ خلقِه وأعظمِهم منزلةً عنده وهو رسولُه  صلى الله عليه وسلم  حيثُ قالَ له مُعاتِباً : } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ {  ( التحريم/1) ، فلو اجتمعَ أهلُ السماواتِ والأرضِ على أن يُحلِّوا شيئاً حرّمَه اللهُ تعالى لم يَحُلَّ أبداً ؛ لأنَّ حكمَ اللهِ لا يتبدّلُ ، ولو اجتمعوا على أن يحرِّموا شيئاً أحلَّه اللهُ تعالى لم يحرُمْ أبداً ؛ لأنّ حكمَ اللهِ تباركَ وتعالى لا يتبدّلُ ، وقد بيّنَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنّ مُطاوعةَ الذين يُحلِّلون ما حرّمَ ، ويحرِّمون ما أحلَّ تدخلُ في بابِ الإشراكِ باللهِ سبحانه ؛ حيثُ قالَ في أهلِ الكتابِ: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ { ( التوبة/31) ، وعندما تلا رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  هذه الآيةَ الكريمةَ على عديِّ بنِ حاتمٍ ، وكان امرأً تنصّرَ في الجاهليةِ ؛ قالَ له : يا رسولَ اللهِ ، إنهم لم يعبدوهم ، فقالَ له رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  : « أليسوا قد أحلُّوا لهم ما حرّمَ اللهُ ، وحرَّموا عليهم ما أحلَّ اللهُ ، فأطاعوهم » ، قالَ له : بلى ، فقال : « ذلك عبادتُهم لهم » .

       وإنَّ أعظمَ ما حرّمَ اللهُ تعالى في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه  صلى الله عليه وسلم  الربا الذي هو حرْبٌ بين العبادِ وبين ربِّهم ، إذْ انتهكوا حرمةَ اللهِ تعالى فيه ، فقد قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ : } الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { ( البقرة/275) ، وقد بيّنَ اللهُ تباركَ وتعالى خطورةَ الربا ، وأنَّه حربٌ بين مرتكبيه وبين اللهِ عزَّ وجلَّ إن لم يتوبوا عنه ، ويقلِعُوا عنه ، ويعودوا إلى منهجِ اللهِ سبحانه وتعالى حيثُ قالَ : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ { ( البقرة/278 ـ 279) ، وقد بيّنَ اللهُ سبحانه وتعالى ما يعودُ إليه أمرُ الربا من كونِه أضعافاً مضاعفةً ، وذلك بمرورِ الزمنِ ، وكثرةِ الزياداتِ التي تُضافُ إلى الأصلِ حيثُ قالَ : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً { ( آل عمران/130) ، وليسَ في هذه الآيةِ الكريمةِ تقييدٌ لنوعِ الرِّبا الذي حرَّمه اللهُ عزَّ وجلَّ ، وإنما هو بيانٌ للمآلِ الذي يؤولُ إليه آكلُ الربا والعياذُ باللهِ تعالى ، وقد شدّدَ الرسولُ  صلى الله عليه وسلم  في أمرِ الربا ، فقالَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « اتّقوا السبْعَ المُوبِقاتِ » ، وذكرَ من هذه السبعِ أكلَ الربا ، وقالَ  صلى الله عليه وسلم  : « لعنَ اللهُ الربا وآكلَه ومؤكلَه وكاتبَه وشاهدَه » ، وقالَ : « هم سواءٌ » ؛ يعني في الإثمِ ، وفي هذا من التحذيرِ ما ليسَ بعده ؛ فإنَّ الربا يشتركُ في إثمِه جميعُ الذين يتلبّسُون به ؛ سواءً أكان المتلبِّسُ به آكلاً أو مُؤكلاً أو شاهداً أو كان كاتباً بين المُترابيين ، وقد بيّنَ رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  كثرةَ أبوابِ الربا ، كما بيّنَ خطورةَ الربا من جميعِ هذه الأبوابِ ، فقد قال ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ : « الربا ثلاثةٌ وسبعون باباً ، أيسرُها في الإثمِ مثْلُ أن ينكحَ الرجلُ أمَّه » ، وحسبُ العاقلِ اللبيبِ تحذيراً بالغاً وتقريعاً شديداً أن يشبِّهَ الرسولُ  صلى الله عليه وسلم  أيسْرَ بابٍ من أبوابِ الربا في الإثمِ بإتيانِ الرجلِ أمَّه ، بهذه الحالةِ المستقذرَةِ في كلِّ طبعٍ ، والمحرّمةِ في كلِّ شرعٍ ، أليسَ في ذلك ما يدعو المسلمَ إلى أن يحذرَ من الولوجِ من أيِّ بابٍ من هذه الأبوابِ ؟!

     وعلى المسلمِ أن يدرِكَ أنَّ مَن لم يُبالِ من أيِّ بابٍ يدخلُ عليه الدرهمُ والدينارُ لم يُبالِ اللهُ تعالى به من أيِّ بابٍ يُدخِلُه النارَ والعياذُ باللهِ تعالى ، فالربا من جميعِ الأبوابِ محرّمٌ ، والمعاملةُ الشرعيةُ هي التي تكونُ وِفْقَ ما أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى به ، وما أباحَ في كتابِه وعلى لسانِ رسولِه  صلى الله عليه وسلم  : } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا { ( الأحزاب/36) } فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا { ( النساء/65) } لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا {  ( النور/63) ، قد يعلمُ اللهُ الذين تكلّمُوا في كلِّ هذه } فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { ( النور/63)  ، فالربا لا يحِلُّ بتحليلِ أيِّ مُحِلِّ أيّاً كانَ ؛ لأنّ اللهَ تعالى لم يكِلِ الأمرَ منه إلى نبيٍّ مرسلٍ ولا إلى ملكٍ مقرّبٍ فضلاً عن غيرِهم من الناسِ ، كما أنّ ما أباحَ اللهُ سبحانه وتعالى من البيعِ الحلالِ الذي لا يتلبّسُ بأيِّ بابٍ من أبوابِ الربا ، ولا يتلبّسُ بأيِّ شُبهةٍ من شُبَهِه ، ولا يتلبّسُ بأيِّ شُبهَةٍ من شُبُهاتِ المحرّماتِ ؛ فإنّه لا يحرمُ أبداً مهما تضافرتْ أقوالُ الناسِ جميعاً على تحريمِه .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واتبعوا الصراطَ السويَّ الذي تركَكم عليه رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  وأصحابُه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوه بإحسانٍ ، وإياكم واتباعَ الأهواءِ ؛ فإنَّ في ذلك والعياذُ باللهِ ما يُردي إلى النارِ . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِرُوا اللهَ يغفِرْ لكم ؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجِبْ لكم ؛ إنه هو البرُّ الكريمُ .

*         *          *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، له الخلْقُ والأمرُ ، والحكمُ والقهرُ ، } إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ { ( يوسف/40) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه إلى خلقِه بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى اللهِ بإذنِه وسراجاً منيراً ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمةَ ، وكشفَ الغمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أما بعدُ :

   فاعلموا يا عبادَ اللهِ أنّ الربا الذي حرّمَه اللهُ عزَّ وجلَّ لا يحلُّ تحتَ أيِّ شعارٍ من الشعاراتِ ، فلا يحلُّ تحتَ شعارِ الاستثمارِ ، ولا يحلُّ تحتَ شعارِ المضاربةِ ، ولا يحلُّ تحتَ أيِّ شعارٍ آخرَ ، ومن تحايلَ على اللهِ سبحانه وتعالى بمحاولةِ تحليلِه تحتَ أيِّ شعارٍ كانَ ؛ كانَ مثَلُه كمثَلِ بني إسرائيلَ عندما تحايلُوا على اللهِ سبحانه وتعالى بمحاولةِ الاصطيادِ في السبتِ بالطريقةِ التي اختاروها لأنفسِهم ، وظنُّوا أنَّ فيها ما يدفعُ عذابَ اللهِ سبحانه وتعالى عنهم ، وقد انقسمُوا في ذلك ثلاثةَ أقسامٍ : منهم من انتهكَ حرمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ تحتَ شعارِ هذا التحايلِ الذي اصطنعُوه ، ومنهم من نهاهم وأنكرَ عليهم ، ومنهم من توقّفَ وعذلَ الناهين بدعوى أنَّ الموعظةَ لا تُجدي في أولئك ، وقد بيّنَ اللهُ سبحانه وتعالى ما كانَ من عاقبتِهم ؛ حيثُ قالَ عزَّ مِن قائلٍ : } واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ { ( الأعراف/163 ـ 166) .

     فليحذرِ المسلمون من هذه العاقبةِ ، وقد ائتمنَهم اللهُ سبحانه وتعالى على دينِه ، وأنزلَ عليهم كتابَه ، وأرسلَ فيهم رسولَه ، وبيّنَ لهم ما يأتون وما يذرون ، وما يفعلون وما يحذرون ، وقد بيّنَ اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ أكلَ المالِ بغيرِ حقٍِّ لا يجوزُ أبدا ، وقد بيّنَ اللهُ سبحانه وتعالى هذا المرادَ على لسانِ رسولِه  صلى الله عليه وسلم  ، فليس التراضي بين الطائفتين على معاملةٍ ما تُحِلُّ تلك المعاملةَ ، فقولُ اللهِ سبحانه وتعالى : } لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ { ( النساء/29) ، لا يمكنُ أن يكونَ دليلاً لتحليلِ ما حرّمَ اللهُ سبحانه وتعالى تحتَ شعارِ التراضي بين الجانبين ، كيفَ ورسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  عندما جاءَه أحدٌ بتمرٍ من خيبرَ ، وكان تمراً بربا ، فقالَ له رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  : « أكلُّ تمرِ خيبرَ هكذا ؟ » ، قال له : « لا ، ولكنّا نبيعُ الصاعَ بالصاعين » ، فقالَ له رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم  : « لا تفعلْ ، بِعْ الجمْعَ بالدارهمِ ، وابتَعْ بالدراهمِ جرِيباً » ، أليست هذه المعاملةُ التي منعَهم رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  مُترَاضِيين عليها ؟! وهل التراضي عليها أباحَها ؟! والنبيُّ  صلى الله عليه وسلم  قالَ : « الذهبُ بالذهبِ ، والفضةُ بالفضةِ ، والبُرُّ بالبُرِّ ، والشعيرُ بالشعيرِ ، والتمرُ بالتمرِ ، والزبيبُ بالزبيبِ ، والملحُ بالملحِ ؛ يداً بيدٍ ، مثْلاً بمثْلٍ ، فمَن زاد أو اسْتزَاد فقد أَربى » ، ولم يقيّدْ رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  ذلك بعدَمِ التراضي ، والمضاربةُ الشرعيةُ هي التي تكونُ وِفْقَ ما شرعَ اللهُ سبحانه وتعالى ، وبيّنَه على لسانِ رسولِه  صلى الله عليه وسلم  ، هذه المضاربةُ يجبُ أن تكونَ متفقاً عليها على حسبِ هذه الأسسِ الشرعيةِ ، ومنها ألا يكونَ الربحُ مقدَّراً من أولِ الأمْرِ بحسبِ ما أعطى المضاربُ من المالِ ، وإنما يجبُ أن يكونَ الرِّبحُ نسبةً مئويةً من الربحِ لا من رأسِ المالِ ، والربحُ المذمومُ بحسبِ أساسِ رأسِ المالِ هو نفسُ الربا والعياذُ باللهِ تعالى .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحذروا الدخولَ في أبوابِ الرِّبا ؛ فإنّ في ذلك ما يؤذِنُ بالخطرِ العظيمِ ، وإذا كانَ أكْلُ الرِّبا نفسُه خطراً عظيماً ؛ لأنّه حرْبٌ بين اللهِ تباركَ وتعالى وبين خلقِه ؛ فما بالُكم باستحلالِه أو إحلالِه ؟!

   فاتقوا اللهَ ، واحذروا ما نهاكم اللهُ تعالى منه } وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ { ( البقرة/281) .