القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
اليمين لا تمنع أعمال البر
بتاريخ 13 يوليو 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

اليمين لا تمنع أعمال البر[1]
 
يقول الله تعالى : "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم "[2] .
 
ارتباط الآية بما قبلها :
هذه الآية جاءت بعد ذكر طرف من أحكام الأنكحة ، وبعد آية تليها يعود السياق مرة أخرى إلى ذكر طائفة من أحكام الأنحكة وما يترتب عليها ، وقد يبدو بادئ الأمر أن هاتين الآيتين خرجتا عن السياق ، ولكن مهما يكن هذا الخروج من حيث اعتبار الأحكام التي تتضمنها الآيتان فإن هناك انسجاماً في المعاني بين هذه الآية والآية التي تليها والآيات المتقدمة ، وقد اختلف المفسرون في تجديد وجوه العلاقات التي تشد بعضها إلى بعض حتى يتجلى الانسجام بين معانيها، فمنهم من قال إن وجه العلاقة تتجلى في أن الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أمر بالتقوى ، وتقوى الله تعالى تندرج فيها جميع الأقوال والأعمال ، فبما أن الله تبارك وتعالى أمر بالتقوى فليست التقوى منحصرة في تجنب الإنسان الأعمال السيئة ، مع محافظته على الأعمال الصالحة ، ولكنها شاملة لاتقاء عثرات الألسن وزيف الكلام مع الحرص على كل ما يقرب إلى الله من الطاعات القولية الدالة على تعظيمه تعالى وخشيته ، ومن أجل ذلك نُهي الناس في هذه الآية الكريمة عما قد يفسر بأنه مناف لتوقير أسماء الله الحسنى ، وذلك إنْ أَكْثَر الناس من الحلف به ، وهذا مبني على رأي من آراء المفسرين في تفسير قوله : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " وهو قول من قال : معناه لا تكثروا الحلف به فيكون اسمه عرضة للإتيان به في مجادلاتكم ، وأما على الرأي الآخر - وهو رأي أكثرهم - بأن المراد أن لا يجعل ذكر الله مانعاً بينهم وبين البر والتقوى عندما يحفلون باسمه على ترك خير أو فعل شر فإن الرابط يتجلى من حيث إن الناس مأمورون على أي حال بأن يأتوا من الأعمال ما يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى زلفى ، وقد يحجزهم عن هذه الأعمال حلفٌ يصدر منهم في فورة غضب ، إلا أن الله تبارك وتعالى جعل لهم مخرجاً من ذلك وهو أن يأتوا الذي حلفوا عليه ثم يكفروا عن أيمانهم ، فالحلف لا يكون مانعاً من فعل الإنسان ما حلف على تركه إن كان في ذاته فعلاً حسناً ، وإنما الميزان في حكم ذلك الفعل عند الله ، فإن كان محبوباً إلى الله عز وجل فليبادر إليه ، وليكفر عن يمينه ، وإن كان بخلاف ذلك فليتجنبه ، وعدول الإنسان عن مقتضى يمينه إلى فعل ما حلف عليه مع التكفير يختلف حكمه باختلاف ذلك الفعل ، فقد يكون مندوباً إليه وقد يكون واجباً ؛ وذلك عندما يحلف الإنسان على ترك شيء من الواجبات أو المندوبات ، وعليه بجانب ذلك أن يكفر عن يمينه ، وبهذا يتضح أن الحنث في اليمين تعتريه الأحكام الخمسة وذلك باختلاف نوعه . وقيل : بأن علاقة الآية بما قبلها من حيث إن الآيات التي سبقت هذه الآية تحدثت عن معاملة اليتامى ومعاملة الأزواج بالخير ، فأمر الناس في هذه الآية أن لا يجعلوا بينهم وبين هذا الخير حجازاً يحول بينهم وبينه ، فعندما يصدر منهم ما يرونه مانعاً من فعل هذا الخير وهو أن يحلفوا باسم الله تعالى فعليهم أن يبادروا إلى فعل الخير وليكفروا عن يمينهم . وقيل : بأن مناسبة الآية لما قبلها من حيث إن الآيات السابقة تناولت جانباً كبيراً من الأحكام ومنها :
‌أ-     أحكام الخمر والميسر .
‌ب-الإنفاق من العفو وهو الفائض عن الحاجة .
‌ج-  تجنب نكاح المشركات وإنكاح المشركين وتجنب إتيان النساء في المحيض.
‌د- الأمر بإتيان النساء في موضع الحرث الذي يشير إلى تجنب إتيانهن في غير ذلك الموضع . وهذه جوانب تتعلق بالأفعال ، فذكر بجانب ذلك ما يوحي بوجوب تعظيم الله تبارك وتعالى بتعظيم اسمه بحيث لا يكون عرضة للحلف به من غير داع يقتضيه ، وبهذا تنتظم هذه الآيات ضبط ما يصدر عن الناس في الأقوال والأعمال لتكون جميعاً وفق حكم الله وشرعه وما يقتضيه تعظيمه وخوفه ، ولا ريب أن مراعاة حرمة اسم الله تبارك وتعالى ؛ مما يوحي بمراعاة حق جلال الله وما يجب له من التعظيم . فهذه جملة من الوجوه التي يمكن أن تعتبر رابطة بين هذه الآية الكريمة والآيات التي تقدمتها .
 
سبب نزول هذه الآية :
ذكر المفسرون أقوالاً في سبب نزولها .
فقد أخرج الواحدي عن الكلبي : أن سببه ما كان من عبد الله بن رواحة في حق ختنه زوج أخته بشير بن النعمان ، إذ طلق أخته فغضب منه عبد الله بن رواحة ، وأقسم بالله أن لا يكلمه وأن لا يدخل بيته وأن لا يصلح بينه وبين زوجه .
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أن السبب في نزولها صنيع الصديق - رضي الله عنه - عندما أقسم أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة وهو ابن خالته بسبب خوضه مع الخائضين في حديث الإفك ، فغضب عليه الصديق ، وقد نزل فيه قول الله تبارك وتعالى في سورة النور بعد ذكر قصة الإفك : " ولا يأتلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله "[3] فهذه الآية تكون بناءً على ذلك - عاضدة للآية التي نزلت في سورة النور .
وقيل : بأنها نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه بسبب أنه أقسم أن لا يأكل مع الضيوف سخطاً على ابنه عبد الرحمن عندما أخّر ضيافتهم .
وهذا الذي ذكره المفسرون من الأسباب ، إنما يعضد التفسير المشهور الذي ذهب إليه أكثر المفسرين وهو أن الآية الكريمة إنما جاءت للتنبيه على أن الإنسان عندما يقسم يميناً حاجزة بينه وبين البر يؤمر أن لا يراعي جانب اليمين بل عليه أن يراعي جانب البر ، ويكفر عن يمينه بعدما يأتي الذي هو خير له .
 
معنى " العرضة " في الآية الكريمة :
ومنشأ اختلاف المفسرين - الذي أجملناه فيما سبق وسنتحدث عنه إن شاء الله بالتفصيل فيما يأتي - هو اختلافهم في العرضة في قوله عز وجل : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم "[4] .
فالعرضة على وزن فعلة وتأتي في اللغة على معانٍ منها :
‌أ-    أن تكون بمعنى المعروض فعُرضة فُعْلَة بمعنى مفعول كالقبضة بمعنى المقبوض ، والغرفة بمعنى المغروف ، والحجرة بمعنى المحجور ، وهكذا . وقد شاع مجيء فُعْلة بمعنى مفعول ، ولذلك يفرق اللغويون ما بين الهُزْءة والهُزَءة ، فالهُزْءة الذي يُهْزَأ منه ، والهُزَءة الذي يَهْزأُ كثيراً من غيره ، ومثله الهُمَزَة واللمزة بفتح الميم فإنهما بمعنى كثير الهمز واللمز ، وأما بتسكين الميم فهما بمعنى المهموز والملموز ، وقالوا بأن الأصل في هذا التفسير للعُرضة أنها في حقيقة معناها هي : ما يُلقى على عُرض الطريق أي على جانبها لأجل منع المارة من المرور ، فعُرض الشيء جانبه ، وما يُلقى في الطريق مما يراد به أن يكون حاجزاً يسمى عُرضة لإلقائه في عرض الطريق أي جانب منه .
وذهب القطب في تفسيره " الهيميان " إلى أن الفُعْلَة هنا بمعنى المفعول لكنها انتقلت في الاستعمال إلى أن تكون بمعنى الفاعل ، ومعنى ذلك أن يكون الله عارضاً أي مانعاً وحاجزاً من استعمال هذا الأمر ، وهذا هو عين ما ذهب إليه في تفسيره " التيسير".
‌ب-   والعرضة تستعمل أيضاً بمعنى القوة ، ومن ذلك قول العرب : فلان عرضة للحرب أي هو قوي عليها ، ويقال : فلانٌ عرضة للسفر إذا كان قادراً عليه ، وحمل على ذلك قولهم : المرأة عُرضة للنكاح إذا كانت قد قويت عليه وكانت مهيأة له ، ومن شواهد ذلك قول كعب بن زهير :
 
عُرْضَتُها طامس الأرجاء مجهول
 
أي عُرْضة الناقة التي يصف قوتها - طامس الأرجاء : أي مجهول النواحي ، والمقصود به البيداء لأنها مئنة لقطعها .
‌ج-   وتأتي العُرضة بمعنى الشيء المعروض للأمر أي المجعول نصب ذلك الأمر كعرض له ، وتدل عليه عدة شواهد من كلام العرب ، منها قول القائل : ( فلا تجعلوني عرضة للوائم ) أي لا تجعلوني نُصْباً للوائم - جمع لائمة - بحيث تتجه إليّ بلومها أو لا تجعلوني عُرضة للمقولات اللوائم ، ومن ذلك أيضاً قول القائل :
طلقتهن وما الطلاق بسُبَّةٍ
إن النساء لعُرْضة التطليق
 
أي هن غرض للطلاق ؛ لأن الطلاق إنما يقع عليهن ، وكذلك قول الآخر :
يتامى آيامى عُرضة للقبائل
أي عرضة لأسر القبائل لها .
وبناءاً على هذه الوجوه في معنى العُرضة وقع اختلاف المفسرين في المراد بها في قوله تعالى : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " فمنهم من قال : بأن المراد لا تجعلوا الله سبحانه وتعالى شيئاً معترضاً يحول بينكم وبين مباشرة ما تقسمون عليه بسبب مراعاتكم لقسمكم به تعالى ، فإن المخلص من ذلك موجود وهو ما شرع لكم من التكفير ، وهذا القول روي عن جم غفير من المفسرين ، ونسب إلى الجمهور وعليه أكثر مفسري السلف .
واستشهد لهذا القول بما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحلف على يمين فأجد غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها "[5] ، والتحلل إنما هو بالتكفير ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن سمرة : " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك "[6] ، فإن الحديثين يدلان على أن المشروع في مثل هذا أن يراعي الإنسان جانب البر أي التقوى والخير ، فإن كان الخير فيما حلف أن يدعه فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه ، وإن كان الخير في الاستمساك باليمين فليستمسك بها ، وهذا لأن البر مأمور به لذاته ، وخيره خير عام يعود إلى فاعله وإلى المفعول من أجله ، وأما المحافظة على اليمين فهي مأمور بها تعظيماً لاسم الله تعالى ، لأن من يقسم على شيء باسم الله فهو إنما يشهد الله تبارك وتعالى على أن ما قاله هو الحق ، والدليل على ذلك قوله عز وجل : " ويشهد الله على ما في قلبه "[7] ، وما كان للإنسان وقد أشهد الله على شيء أن يعدل عنه إلى غيره إلا إن كان العدول أرضى لله سبحانه ، وما النطق باسم الله في الأيمان إلا لتأكيد القول ، لذلك كانت الباء وهي في الأصل تدل على الملابسة - هي الأصل في حروف القسم ، وتستعمل مع ذكر فعل القسم وحذفه ، بخلاف الواو والتاء ، على أن الحلف بالباء يكون في مقام التأكيد وفي مقام الاستعطاف ، بخلاف الحلف بالواو والتاء فإنه لا يكون إلا في مقام التأكيد دون مقام الاستعطاف ، فمن أجل ذلك اتضح بأن الذي يقسم إنما يؤكد ما يقوله باسم الله تبارك وتعالى ، فهو يتحدث متلبساً باسم الله ، ومراعاة جانب المحافظة على البر والصلاح أولى من مراعاة جانب المحافظة على صدق القسم لأنهما أرضى لله ؛ وقد جعل الله تعالى للعبد مخرجاً مما التزمه بقسمه ، وهو أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه ، حرصاً على ما هو أرضى لله وأنفع للعباد ، والله يريد لعباده اعتياد المحافظة على الأعمال الصالحة ونفع العباد ولو خالف ذلك القسم باسمه ، فإن في الاستمساك باليمين تعظيماً لاسمه تعالى دون أمره ، ويقال : الامتثال مقدم على الأدب ، والله سبحانه وتعالى هو الذي أذن بالحنث مع التكفير عندما يكون في ذلك خير ، وفي هذا ما يدعو إلى عدم المسارعة إلى القسم ، وأن يكون الإنسان متأنياً في قسمه بحيث لا يقسم إلا على أمرٍ تدعوه الضرورة إلى تأكيده بالقسم ، وألا يكون ما يقسم عليه ليس مرضياً لله سبحانه وتعالى ، بل عليه أن يتحرى مرضاة الله من أول الأمر ، وذكر اسم الجلالة هنا من غير أن يضاف إلى لفظة اسم إذ لم يقل : ولا تجعلوا اسم الله عرضة لأيمانكم وإنما قال : " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " لأن الاسم يدل على المسمى ، فالذي يقسم باسمه سبحانه وتعالى إنما أراد المسمى ، وهو ذات الله سبحانه ، وفي هذا ما يوحي أيضاً إلى أن الذي يقسم عليه أن يشعر بعظمة ما يقدم عليه ، فإنما يجعل الله سبحانه وتعالى بينه وبين الذي يقسم على تركه من الأفعال والأقوال ، فعليه أن يستبصر في قسمه ببينة من ربه .
وعدم ذكر الاسم في مثل هذه الأحوال شائع حتى عند العرب حتى قبل نزول القرآن الكريم ، فالنابغة يقول :
حلفت فلم أترك لنفسك رببة
وليس وراء الله للمرء مطلب
ومعنى ( ليس وراء الله ) ليس وراء اسمه سبحانه وتعالى للمرء مطلب فيقسم به ، وإنما غاية ما يقسم به اسم الله تبارك وتعالى ، فذكر اسم الجلالة وحده من غير أن يكون مضافاً إليه اسم .
 
معنى اليمين لغة واصطلاحاً :
وبناءاً على هذا القول فإن المقصود بالأيمان : الأمور التي يُحْلَف عليها ، والأصل في الأيمان : أنها جمع يمين : واليمين هي اليد اليمنى التي هي ضد اليد اليسرى ، وسميت يميناً أخذاً من اليُمْن ، لأن مباشرة الأعمال بها أيسر فهي أيمن من اليسرى ، ثم أطلق لفظ اليمين على الجهة التي تقع فيها هذه اليد ، فيقال فلان جلس عن يمين فلان : أي عن الجهة التي تحاذي هذه اليد التي تسمى باليمين ، وأطلق اسم اليمين على الحلف لأن من شأن العرب في تاريخهم منذ عهود الجاهلية أنهم إذا تعاقدوا على أمر أخذ أحدهم بيمين الآخر ، وهكذا تعقد الأحلاف بينهم ، وبما أن القسم يقصدون به تأكيد عهود الحلف كانوا كذلك عندما يقسمون يأخذ أحدهم بيمين الآخر فيقسم على ذلك الأمر الذي يريد أن يؤكده ، ثم أطلق من باب التجوز على الشيء المحلوف عليه سواء كان فعلاً أو تركاً ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا حلفت على يمينٍ " أي إذا حلفت على شيء فالمقصود باليمين في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام هنا الشيء المحلوف عليه ، واليمين تجمع على أيمن وعلى أيمان وكلاهما على غير قياس ، لأن اليمين فعيلاً والأيمن إنما هو مقيس في جمع فَعْل كعظم وأعظم جمع قلة ، والأيمان على وزن أفْعَال وهو مقيس في جمع الثلاثيات الأخرى التي هي على غير وزن فَعْل - بفتح الفاء وسكون العين - وذلك كفِعْلٍ وفِعَلٍ وفَعِل وفُعُلٍ وفُعْلٍ وغيرها تجمع جمع القلة على أفعال .
 
المقصود بالنهي في هذه الآية :
معنى الآية الكريمة لا تجعلوا الله سبحانه وتعالى معترضاً لأيمانكم أي مانعاً أن تأتوا ما حلفتم عليه من أفعال البر .
وقيل : المراد لا تجعلوا الله تعالى قوة للأقسام التي تقسمونها لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، وهذا القول مروي عن طائفة من علماء السلف ، بل روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقيل بأن المراد : لا تجعلوا الله غرضاً لأيمانكم ، بحيث تحلفون به في جميع أحوالكم : في جدكم وهزلكم ، في أمور آخرتكم ودنياكم ، فيما ينفعكم وفيما يضركم ، بحيث تجترئون على الله سبحانه وتعالى بالحلف على أي حال ، وهذا القول مروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ، وروي مثله عن الإمام مالك ، وجنح إليه عدد كبير من المفسرين من بينهم الراغب الأصفهاني والفخر الرازي وأبو حيان والقطب في تفسيريه ( الهيميان ، والتيسير ) ، وعدد آخر من المفسرين ، وعضدوا ذلك بأن اسم الله سبحانه وتعالى يجب أن يقدس وينزه ، فلا يكون عرضة لتلاعب الناس به ، وكثرة الحلف باسمه سبحانه وتعالى إنما تدل على عدم رسوخ هيبته في القلوب ، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى مجموعة من صفات الذم في الإنسان الذي يجب أن يجتنب ، وصدر هذه الصفات بكثرة الحلف ، فقال عز وجل : " ولا تطع كل حلاف مهين همازٍ مشاءٍ بنميم مناعٍ للخير معتدٍ أثيم عتلٍ بعد ذلك زنيم "[8] فهذه الصفات كلها قبائح ، ولكنها ابتدئت بالحلاف ، والحلاّف من الحلف على وزن فّعّال بمعنى كثير الحلف ، ويؤكد ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى : " واحفظوا أيمانكم "[9] ونجد مجموعة من المفسرين يقولون بأن العرب كانت منذ عهود الجاهلية ترى أن كثرة اليمين والحلف منقصة في الإنسان ، واستدلوا لذلك بقول الشاعر :
قليل الألايا حافظ ليمينه
وإن صدرت منه الألية برتِ
فالألايا : جمع ألية ، وهي اليمين ، مأخوذة من آلآ يؤلي ، ومنه قوله تعالى : " للذين يؤلون من نساءهم تربص أربعة أشهر "[10] ، فالشاعر يصف ممدوحه بأنه قليل الألايا - أي قليل القسم - حافظ ليمينه ، وإن وقعت منه اليمين فإنه يحرص على برها ، وبعض المفسرين قال لئن كان هذا الأمر من شأن أهل الجاهلية مع كونهم منغمسين في الضلال فكيف بالمسلمين ، بل كيف بأهل العلم من المسلمين يقعون في مثل هذه الحالة المستهجنة المذمومة ، فلا يبالي أحدهم أن يحلف بالله تبارك وتعالى لأدنى شيء من غير أن يضطره إلى الحلف أمر له قيمة .
ولكن لا نسلم أن ذلك كان من عادات أهل الجاهلية بدليل أن هذا الشاعر لم يكن جاهلياً بل هو من الشعراء الإسلاميين فهو كُثيّر ، وعليه فلا يستظهر من هذا الشعر أن أهل الجاهلية كانوا يحافظون على بر أيمانهم مع كونهم لا يحلفون إلا قليلاً . وإنما بعدما جاء الإسلام بهذا الأدب القرآني والتوجيه الرباني حافظ الذين استمسكوا به على هذه الآداب فكان من بينهم هذا الذي يعنيه الشاعر بهذا الثناء.
وقيل : بأن الذي يكثر الحلف يكون حلفه سبباً لعدم ثقة الناس به ، فالناس لا يعبأون بالحلاّف ولا يهتمون بأقواله ولا يكون له ولا لأقواله وزن بينهم ، ولذلك سماه الله تبارك وتعالى مهيناً فقال : " ولا تطع كل حلاف مهين "[11] بل هو بنفسه يكون غير واثق من نفسه ، لأن كثرة الحلف من الإنسان تنشأ عن عدم ثقته بنفسه ، فهو يشعر أن الناس غير واثقين به وبكلامه ، لأنه يعلم أنهم يعرفون من خلاله ما هو عارف به ، فلذلك يحاول أن يجبر هذا النقص بكثرة الحلف ليكتسب ثقة الناس ، وبناءً على هذا التفسير تكون الأيمان جمع يمين .
وقوله سبحانه : " أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "[12] : أن تبروا مع ما بعده قيل : هو في محل جر عطف بيان لأيمانكم ، وهذا هو الذي ذهب إليه الزمخشري ، وانتقده أبو حيان انتقاداً شديداً نظراً إلى أن الأيمان لا يمكن أن تبين بأنها بر وأنها تقوى وأنها إصلاح بين الناس ، وهذا الذي ذهب إليه أبو حيان إنما بناه على ما ارتآه من تفسير الآية الكريمة ، وما ذهب إليه الزمخشري بناه أيضاً على التوجيه الذي وجه به معنى الآية ، وهو الذي يتفق مع رأي الجمهور من أن الآية الكريمة إنما جاءت لنهي الناس عن الاستمساك بالأيمان وترك البر والتقوى والإصلاح بين الناس لمنع الأيمان من آلى من ذلك ، والزمخشري بنى على هذا الذي ذهب إليه ما ذكرته من قبل أن المقصود بالأيمان المحلوف عليه ، وهذا التوجيه الذي وجه به معنى قوله سبحانه وتعالى : " أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " يتفق مع ما ذهب إليه ، وقد تعقبه أبو حيان بأنه لو زعم أن ذلك بدل لكان أولى له ، نظراً إلى أن عطف البيان إنما يأتي غالباً من الأعلام ، وتعقب بأن البدلية هنا متعذرة ، لأن البدل إنما يكون في موضع يصلح لأن يقع فيه موقع المبدل منه ، وما ذكر هنا لا يصلح أن يقع موقع الأيمان ، وكون عطف البيان يأتي غالباً من الأعلام لا يمنع من أن يكون من غير العلم ، فإن عطف البيان هو أكثر في الأعلام ، وهو كثير أيضاً في غير الأعلام .
ومنهم من قال : بأن المراد بقوله سبحانه وتعالى : " أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس " لأن " لا تبروا " كما في قوله عز وجل : " يبين الله لكم أن تضلوا "[13] أي لأن لا تضلوا .
ومنهم من قال : بأن التقدير كراهة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، أي لا تجعلوا الله معترضاً بينكم وبين ما حلفتم عليه لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أو كراهة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، وعلى هذا فقوله سبحانه : " أن تبروا " وما بعده في موضع نصب في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله ، وذهب بعضهم على أن النصب هنا على تقدير حرف الجر ، والتقدير : على أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، وهذا الذي ذهب إليه أبو حيان وبناه على التفسير الذي اختاره وهو القول الثالث من الأقوال التي ذكرناها من قبل في تفسير " عرضة " ، وذهب الزَّجاج والتبريزي إلى أن هذا الكلام مقطوع عما قبله وهو في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف ، والتقدير : أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم أو أولى لكم أو نحو ذلك ، وقد رد على هذا بأن قطع هذا الكلام عما قبله غير لائق ، ثم من ناحية أخرى فإن الأصل عدم التقدير ، ولا داعي إلى مثل هذا التقدير الذي لا يدل عليه أي دليل ولا يقتضيه المقام .
وبناءً على أن العرضة بمعنى القوة ، يمكن أن يقال لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم لئلا تبروا أو كراهة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ، وكذلك على القول الأول وهو أن المقصود نهي الناس عن جعل أيمانهم بالله حاجزة بينهم وبين البر والتقوى والإصلاح بين الناس ، أما على القول الأخير فيتجلى المراد بالبر والتقوى والإصلاح بين الناس ، من حيث إن الذي يتجنب كثرة الحلف يكون تجنبه ذلك داعياً له إلى البر ، لأنه ناشئ عن تعظيمه لله سبحانه وتعالى ولذلك عظم أسماءه فلا يمتهنها بالحلف بها لأتفه الأسباب ، وهذا من البر ومن التقوى، وهو داع للإصلاح بين الناس لأنه يكون بسبب ذلك موضع ثقة الناس ، فالناس لا يثقون بالحلاف المهين ، وإنما يثقون بالصدوق الذي يتجنب الحلف ، فإذا ما تجنب الحلف مع اتصافه بالصدق كان ذلك داعياً إلى ثقة الناس به والاعتماد عليه ، فإذا سعى للإصلاح بينهم كان موضع القبول والرضى منهم ، وبهذا التوجيه لمعنى الآية الكريمة يمكن أن يكون ما ذهب إليه أبو حيان من أن قوله سبحانه : وتعالى : " أن تتقوا " في محل نصب بنزع الحرف الخافض مقبولاً .
 
خاتمة الآية :
وقوله سبحانه : " والله سميع عليم " بعدما أمر الله سبحانه وتعالى هنا بما أمر به من عدم جعله عز وجل عرضة للأيمان - كيفما كان معنى ذلك على حسب اختلاف العلماء في توجيه معنى الآية الكريمة - يبين الله سبحانه وتعالى ما هو متصف به من الاطلاع على أقوال العباد وعلى أعمالهم وعلى ما تنطوي عليه حنايا صدورهم ، فهو تعالى سميع بكل ما يبدر منهم ، فمن حلف كان لحلفه سميعاً ، ومن قال كلمة طيبة من أمر بالإصلاح بين الناس أو أية كلمة برٍ وتقوى يقولها بينه وبين ربه أو بينه وبين عباد الله سبحانه وتعالى فإن الله سميع لها وجازيه بها ، وما أتى به من أعمال البر والخير والمعروف فالله سبحانه وتعالى أيضاً به عليم ، وكذلك ما يختلج في قلبه من خشية الله تعالى وتعظيمه عز وجل حتى لا يجرؤا على القسم بأسمائه ولو كان صادقاً إلا لداعٍ لابد له معه من القسم ، فهو سبحانه وتعالى أيضاً به عليم فيجازي كل أحد بما هو مطلع عليه وعليم به من أقواله وأعماله وأحواله ، فالله لا تخفى عليه خافية ، وفي هذا ما يدعو إلى الاستمساك بأمر الله سبحانه وتعالى والارتداع عن نهيه ، والحذر من الإقدام على أي شيء كان قولاً أو فعلاً إلا بعد وزنه بموازين الله ، ليُعلم خيره من شره وصلاحه من فساده وبره من فجوره ، فإن الله تعالى بكل شيء عليم ولكل شيء سميع ، لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .

 
[1] أصل هذه المادة تفسير الآية ( 224 ) من سورة البقرة من دروس التفسير التي يلقيها سماحة المفتي العام للسلطنة ، أحببنا إلحاقها بالكتاب إتماماً للفائدة .
[2]  الآية رقم ( 224 ) من سورة البقرة .
[3]  الآية رقم ( 22 ) من سورة النور .
[4] الآية رقم ( 224 ) من سورة البقرة .
[5] رواه البخاري ، كتاب الأيمان والنذور ، باب قول الله تعالى : " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " ، رقم ( 6247 ) ، ومسلم ، كتاب الأيمان ، باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خري منها ، رقم ( 1649 ) .
[6] رواه الربيع في كتاب الأيمان والنذور ، باب في الأيمان والنذور ، رقم ( 656 ) .
[7]  الآية رقم ( 204 ) من سورة البقرة .
[8]  الآية رقم ( 10 - 13 ) من سورة القلم .
[9]  الآية رقم ( 89 ) من سورة المائدة .
[10]  الآية رقم ( 226 ) من سورة البقرة .
[11]  الآية رقم ( 10 ) من سورة القلم .
[12]  الآية رقم ( 224 ) من سورة البقرة .
[13]  الآية رقم ( 176 ) من سورة النساء .