القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
مشروعية تثمير أموال الزكاة
بتاريخ 13 يوليو 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

الزكاة عبادة مالية اجتماعية ، ومدلول لفظها من حيث اللغة إما النماء والبركة، وإما الطهارة والصلاح ، ففي اللسان ((مادة  زكا)) : (الزكاء ممدود النماء والريع، زكا يزكو زكاء وزكوا ، وفي حديث علي كرم الله وجهه ((المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق)) ، فاستعار له الزكاء إن لم يكن ذا جرم ، وقد زكاه الله وأزكاه ، والزكاء ما أخرجه الله من الثمر). [ابن مظور، لسان العرب ، دار بيروت للطباعة والنشر]
وفيه أيضاً (والزكاة الصلاح ، ورجل تقي زكي أي زاك من قوم أتقياء أزكياء ، وقد زكا زكاء وزكوا - إلى أن قال - فالزكاة طهرة للأموال ، وزكاة الفطر طهرة للأبدان ، وفي حديث الباقر أنه قال : ((زكاة الأرض يبسها)) ، يريد طهارتها من النجاسة كالبول وأشباهه ، بأن يجف ويذهب أثره )  انتهى.
ومن أصول دلالات لفظها تتبين الحكمة الربانية في مشروعيتها ، فهي تحقق النماء والطهارة ، وتعود فائدتها على معطيها وآخذها وعلى مجتمعهما .
أما معطيها فإنه يستفيد بها طهارة نفسه ونماء فضائلها ، لأنها تخلصه من حب الأثرة والاستبداد بالمال ، والشهوة المالية الجامحة ، التي لا تلبث عندما تستحكم في النفس أن تسيطر على أحاسيسها ومشاعرها ، وتستولي على جميع تصرفاتها وأعمالها ، حتى يتحول الإنسان إلى سبع ضار لا يبالي بما يأتي به من الإجرام في سبيل إشباع هذه الشهوة المسعورة ، وما جرائم قطاع الطرق والعصائب الإرهابية التي تشيع الذعر وتهدد الأمن إلا نتائج استحكام شهوة المال في الأنفس ، ولا تقف خطورتها عند حد ، بل كثيراً ما تؤدي إلى نضوب العواطف وجفاف المشاعر ، حتى لا تراعى حرمة للحمة القرابة والنسب ، فكم سمعنا باغتيال ولد لوالده ، وعدوان قريب على قرابته ، طمعاً في الاستئثار بما في أيديهم من المال ، وما من علاج لهذا الداء أنجح وأجدى من تربية النفس على إنفاق المال فيما يعود بالخير والإحسان على الأمة ، ونجد في نظام الزكاة المشروعة في الإسلام المرهم النافع والمبضع المستأصل لهذا الداء ، وبتعود الإنسان إيتاءها تتفجر في نفسه مشاعر الرحمة ، وتغمرها عواطف الإحسان، فلا يشعر بهدوء بال ولا استقرار نفسي مع تصاعد أنات الفقراء والبؤساء حتى يفيض عليهم من صلاته ، ويغمرهم بشفقته وحنانه ، وهذا هو ما أشار إليه الحق تعالى في قوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة : 103] .
وأما آخذها فإنها - مع دفعها لخصاصته وسدها لعوزه ، وتمكنه بها من مقاومة لأواء الحياة ومواجهة عسر مطالبها  تطفىء  في نفسه  سعير الحقد ولهيب الحسد ، اللذين تؤججهما مشاهدته للتباين الكبير بين وضعه ووضع الغني المستأثر بالثروات ، الذي يتقلب في أعطاف النعيم ، غير مبال بصيحات أولي المسغبة التي تصعدها حاجتهم الملحة إلى ضرورات الحياة ، إلا أنه عندما تردم هذه الهوة السحيقة بالزكاة التي تجسد المشاركة المالية الإجتماعية بين طبقتي الأغنياء والفقراء يتلاشى ما في نفوس الفقراء من حقد وكراهية لطبقة الأغنياء ، فلا تلبث قلوبهم أن تفيض بالمودة لهم ، وألسنتهم أن تلهج بالثناء عليهم والدعاء لهم ، وباجتماع هاتين الطبقتين على كلمة سواء يجتمع الشمل وتتألف القلوب ، وتتوحد المشاعر والأحاسيس ، وينعم المجتمع بأسره بالهدوء والاستقرار ، والراحة والسكينة والرحمة والمودة ، ويتجسد فيه معنى قول النبى - عليه الصلاة والسلام - : ((ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))[روى بنحوه ، البخاري عن طريق النعمان بن بشير في كتاب الأدب ، الباب 27 ، رقمه 60011 ومسلم بعدة طرق من طريق النعمان أيضاً في كتاب البر والصلة والآداب]، وقوله ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)). [رواه البخاري عن طريق أبي موسى في كتاب الأدب ، الباب 36 ، وقمه 6026 ، وفي كتاب المظالم والغضب ، الباب 5 رقمه 2446 ومن نفس طريق أبي موسى رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب]
ولئن كان الإنفاق في جميع وجوه الخير وسبل الإحسان مطلباً من مطالب الإسلام ، حضت عليه آيات جمة من الكتاب العزيز ، وتظافرت على العناية به أحاديث الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ، فإن الزكاة - وهي على رأس ضروب الإنفاق المأمور به - ركن من أركان هذا الدين ، التي يقوم عليها صرحه ويشمخ بها بنيانه ، كما نص على ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : ((بني الإسلام على خمس)) ، ويؤكده اقترانها في الآي القرآني بأهم ركن عملي من أركانه وهو الصلاة .
ويلحظ أن الزكاة في الإسلام لم توكل إلى ضمائر الأغنياء ، فتتفاوت قلة وكثرة بقدر ما في نفوسهم من قوة الدوافع على السخاء أو ضعفها ، بل بين الشارع مقاديرها ليتساوى الناس كلهم فيها ، ولا يكون بينهم تفاوت إلا بقدر تفاوتهم في الأملاك التي فرضت فيها ، كما يلحظ أن الأصناف التي أجمعت الأمة على تعلق حق الزكاة بها هي من صنوف المال الذي تتوقف عليه ضرورات حياة الإنسان ، من أنواع الحبوب المدخرة المقتاتة ، والأنعام والتجارة ، والنقدين اللذين هما أهم وسيلة لتبادل منافع الحياة ، كما أنهما المعيار لقيم الأشياء .
وباستقراء ذلك يتبين أنه يتنازع فرضية الزكاة حقان ، حق رباني وحق إنساني، فالحق الرباني هو حق التعبد الذي هو صلة بين العباد وربهم ، يتميز - بحسن أدائه لوجه الله - الطائع من العاصي ، ومن هذه الناحية لا فرق بين الزكاة وبين سائر العبادات كالصلاة والصيام والحج .
وأما الحق الإنساني ، فهو عون الأقوياء للضعفاء على القيام بمطالب العيش ولوازم الحياة ، وما يستلزم ذلك من جيشان القلوب بالشفقة والرحمة والحنان، وما يستتبعه من تكافل الأمة ، وتراص صفوفها ، وشيوع المودة بينها ، وانحسار البغضاء عنها ، وقد تتفاوت أنظار الفقهاء في الأصل الذي يبنون عليه اجتهادهم في فروع مسائل الزكاة الجزئية من هذين الأصلين ، ولذلك يختلفون تسامحاً وتشددا في بعض المسائل الفرعية من هذا الباب ، كما سيتضح ذلك - إن شاء الله - من خلال تعرضنا لأقرب المسائل شبها بموضوع البحث ، فإن من راعى الحق الإلهي أحجم عن التوسع ، لأنه عد الزكاة كالصلاة والصيام في وجوب الالتزام فيها بقيود الأدلة الشرعية النصية ، ومن راعى الحق الإنساني توسع في النظر في حدود مصلحة الفقراء وسائر المستحقين للزكاة، نظراً إلى أنها شرعت من أجل سد خلتهم وقضاء مأربهم في الحياة .
إخراج الزكاة من غير جنس المزكى:
لا خلاف بين الأمة في أن الأصل في إخراج الزكاة أن يكون المخرج من جنس ما يزكى ، اللهم إلا فيما دون الخمس والعشرين من الإبل ، حيث تدفع شاة عن كل خمس منها ، فإن بلغت خمسا وعشرين وجبت فيها بنت مخاض ، وكذلك البقر عند من يجعل حكمها كالإبل في الزكاة ، وإنما اختلفت الأمة في العدول عن هذا الأصل بحيث يكون الثمن بديلاً عن العين الواجب أداؤها بالنص ، وهذا الخلاف إنما يعود إلى اختلاف الأنظار في ترجيح أحد الأصلين اللذين أشرنا إليهما من قبل على الآخر ، فمن ترجح عنده جانب التعبد على جانب المصلحة شدد في المسألة ، وألزمه أن يكون المدفوع من جنس المال الواجبة زكاته ، كما يتقيد في أداء الصلاة بمواقيتها وعدد ركعاتها وسائر ما فرض فيها من قول وعمل ، وكما يتقيد في الصيام بزمنه المحدود وأحكامه المشروعة ، وكما يتقيد في الحج بمشاعره المعلومة وسائر أحكامه المرسومة ، كيف والمال نفسه إنما هو مال الله ، ولئن أضيف إلى من أورثه الله إياه فليست تلك الإضافة إلا مجازا ، إذ غاية ما في ذلك أن الإنسان مستخلف فيه ومؤتمن عليه ، قال تعالى : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور : 33]  ، وقال : {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ } [الحديد : 7] ، ولئن كان الشارع الحكيم بين للناس كيفية هذا الإنفاق ، فإن التقيد بما بينه أمر لا مناص منه ، ومن ترجح عنده جانب المصلحة التي من أجلها شرعت الزكاة ، ورأى أنها تتحقق بدفع البديل عن الجنس كما تتحقق بدفعها من الجنس ، تتحقق بهذا العطاء سواء روعي في ذلك جانب المعطي ، وهو تطهير نفسه من رجس الشح ، وتخليصها من آثار حب المال ، وغرس الفضائل والقيم فيها بالتعويد على البر والإحسان ، أو روعي جانب المعطى ، وهو ذو الخصاصة ، والمصلحة في جانبه هي دفع الخصاصة عنه وإذهاب آثار الحقد والحسد والكراهية عنه .
ولعلماء الإباضية كغيرهم رأيان في المسألة ، فبعضهم قال بعدم الجواز كما هو مذهب الأئمة ، مالك والشافعي وأحمد ، والأكثرون منهم يرون الجواز كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة [نور الدين السالمي ، معارج الآمال على مدارج الكمال ، ج16 ص209 ، ط وزارة التراث القومي والثقافة - سلطنة عمان- ]، قال الإمام نور الدين السالمي - رحمه الله - ((ثم اختلف هؤلاء ، فقال بعضهم لا يعطى فيها غير الذهب والفضة ، وقال الأكثر منهم يعطى باعتبار القيمة والعروض وغيرها كالتمر والزبيب عن الحب)) [معارج الآمال على مدارج الكمال -نور الدين السالمي] .
وأعاد الإمام السالمي الخلاف إلى اختلافهم في ترجيح أحد الأصلين المتقدم ذكرهما ، قال ((فمن قال إنها عبادة ، قال : إن أخرج من غير تلك الأعيان لم تجزئ لأنه أتى بالعبادة على غير الجهة المأمور بها فهي فاسدة ، ومن قال هي حق للمساكين لا فرق عنده بين القيمة والعين))[معارج الآمال على مدارج الكمال -نور الدين السالمي] .
وذكر الإمام السالمي إثر هذا مناقشة للمانعين ملخصها ، أنه بثبوت مشروعية الزكاة لأجل الأصلين المذكورين ، لا ينبغي أن ينسى أدقهما من أجل أجلاهما، فلعل الأدق هو الأهم ، فإن سد خلة المحتاج أسبق الاعتبارين إلى الأفهام ، وجانب التعبد في اتباع التفاصيل مقصد شرعي ، وباعتباره صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج في كونها من مباني الإسلام ، وما من شك أن على المكلف جهداً في تمييز أجناس ماله وإخراج حصة كل مال من نوعه وجنسه وصفته ، ويدل على أن التعبد مقصود بتعيين الأنواع أن الشرع أوجب في خمس من الإبل شاة ، فعدل عن الإبل إلى الشاة لا إلى النقدين أو التقويم ، وإن قدر أن ذلك لقلة النقود في أيدي العرب فهو مدفوع بذكره عشرين درهماً في الجبران مع الشاتين ، فلم لم يذكر في الجبران قدر النقصان من القيمة ، وما الداعي لتقديره بعشرين درهماً والشاتين إن كانت الثياب والأمتعة في معناها .
ونسب الإمام السالمي إلى أصحاب هذا الرأي قولهم : فهذا وأمثاله من التخصيصات يدل على أن الزكاة لم تترك خالية عن التعبدات كما هو الشأن في الضحايا والهدايا ، فإنه لا تجزيء القيمة فيهما ، لأن الشرع أوجب ذلك علينا، والواجب ما لا يسع تركه ، ومتى ساغ غيره وسع تركه فلا يكون واجباً .
وأجاب الإمام السالمي عن هذا كله : بأن تخصيص الزكاة بأعيان الأموال إنما هو تسهيل على أرباب الأموال ، لأن كل ذي مال يسهل عليه الإخراج من النوع الذي في يده ، ثم إن الأمر بالأداء إلى الفقير إيجاب للرزق الموعود ، بخلاف الهدايا والضحايا فإن المستحق فيه إراقة الدم ، وهي لا تُعقَل ، ووجه القربة في المتنازع فيه سد خلة المحتاج وهو معقول ، على أن ذكر الدراهم في الجبران يدل على جواز إعطاء القيمة عن الغير ، إذ لولا ذلك لكان الجبران من جنس المال، كما وجب في الخمس من الإبل شاة))[معارج الآمال على مدارج الكمال، 210- 211] .
وهذا الجواب ينم عن ميل الإمام السالمي إلى مذهب القائلين بجواز دفع القيمة، وإلى هذا جنح الإمام البخاري ، وأفرد لذلك بابا في صحيحه وهو ((باب العرض في الزكاة)) ، ذكر أوله الأثر الذي رواه طاوس عن معاذ - رضي الله عنه - أنه قال لأهل اليمن : ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -  بالمدينة.
قال ابن رشيد : وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل[الحافظ ابن حجر، فتح الباري ، ج3 ص312 ، ط دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت . البدر العيني ، عمدة القاري ، ج9 ، ص4 ، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان] .
وقال الحافظ ابن حجر في أثر معاذ : (هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاوس لكن طاوس لم يسمع من معاذ فهو منقطع ، فلا يغتر بقول من قال ذكره البخاري بالتعليق الجازم فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه، وأما باقي الإسناد فلا ، إلا أن إيراده له في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده ، وكأنه عضده عنده الأحاديث التي ذكرها في الباب ، وقد روينا أثر طاوس المذكور في كتاب الخراج ليحيى بن آدم من رواية ابن عيينة عن إبراهيم ابن ميسرة وعمرو بن دينار فرقهما كلاهما عن طاوس .[ابن حجر ، فتح الباري ، ج3 ، ص312] .
وأجاب الإمام السالمي في معارجه عما ذكره الحافظ من انقطاع سند هذا الأثر - لأن طاوسا لم يسمع من معاذ - بما حكاه الحافظ بنفسه في التلخيص عن الإمام الشافعي أنه قال : طاوس عالم بأمر معاذ وإن لم يلقه ، لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذاً ، وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافاً[ابن حجر ، (33) تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرفاعي الكبير ، ج2، ص152، ط دار المعارف -بيروت - لبنان] .
وأجاب البدر العيني عما قيل من انقطاع سند الأثر - وسماه إرسالاً - بأن المرسل حجة عندهم أي الحنفية [البدر العيني ، عمدة القاري شرح صحيح البخاري ، ج9 ، (41) ص4].
وحمل بعض المانعين هذا الأثر على أنه في الجزية لا في الصدقة ، كما ذكره البيهقي وقال : هذا هو الأليق بمعاذ والأشبه بما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخذ الجنس في الصدقات ، وأخذ الدينار أو عدله من ثياب اليمن في الجزية ، وأن يرد الصدقات إلى فقرائهم لا أن ينقلها إلى المهاجرين بالمدينة الذين أكثرهم أهل فيء لا أهل صدقة [نور الدين السالمي ، معارج الآمال ج16 ، ص212 نقلاً عن البيهقي] .
قال الحافظ : فإن ثبت ذلك سقط الاستدلال ، لكن المشهور الأول ، وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس أن معاذ كان يأخذ العروض في الصدقة [فتح الباري ، ج ص312] .
ونقل الحافظ عن عبد الوهاب المالكي قوله : كانوا يطلقون على الجزية اسم الصدقة فلعل هذا منها [فتح الباري ، ص313].
وأجاب البدر العيني على من حمل الصدقة على الجزية بأربعة أوجه :-
أولها : أنه قال مكان الشعير والذرة ، وتلك غير واجبة في الجزية بالإجماع ، وهذا الوجه سبقه إليه الحافظ ابن حجر [المرجع السابق]  .
ثانيها : أن المنصوص عليه لفظ الصدقة كما في لفظ البخاري ، والجزية صغار لا صدقة ، ومسميها بالصدقة مكابر .
ثالثها : أنه قاله حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأخذ زكاتهم ، وفعله امتثال لما بعث من أجله وسببه  وهو الزكاة ، فكيف يحمل على الجزية.
رابعها : أن الخطاب مع المسلمين ، لأنه يبين لهم ما فيه من النفع لأنفسهم وللمهاجرين والأنصار ، فلولا أنهم يريدون المهاجرين والأنصار لما قال خير لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهم المهاجرون والأنصار ، لأن الكفار لا يختارون الخير للمهاجرين والأنصار [العيني ، عمدة القاري ج9 ، ص504] .
ثم إن العلامة العيني ذكر بعض الإيرادات التي تعقب بها على الاستدلال بأثر معاذ وأجاب عليها .
منها : قولهم مذهب معاذ  عدم جواز نقل الصدقات ، أجاب عليه بأنه لا أصل له ، لأنه لا ينسب إلى أحد من الصحابة مذهب في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومنها : ما نسب إلى الإسماعيلي من أنها لو كانت من الزكاة لم تكن مردودة على الصحابة ، وقد أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم .
وأجاب عليه العيني : بأن ذلك ليس على إطلاقه ، وإنما هو خير للفقراء منهم، وهو من باب حذف المضاف وإقام المضاف إليه مقامه ، وما كان نقل الزكاة إلى المدينة إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي  بعثه لذلك ، ولأنه يجوز نقلها إلى قوم هم أحوج من الفقراء الذين هم هناك ، وفقراء المهاجرين والأنصار أحوج للهجرة وضيق حال المسلمين في ذلك الوقت [المرجع السابق ص5] .
وذكر الحافظ بأنه أجيب هذا الإعتراض : بأنه لا مانع من أنه كان يحمل الزكاة إلى الإمام ليتولى قسمتها ، وقد احتج به من يجيز نقل الزكاة من بلد إلى بلد ، وهي مسألة خلافية أيضاً [فتح الباري ، ج3، ص313] .
ثم قال العيني : فإن قلت قد قيل إن الجزية كانت يومئذ من قوم عرب باسم الصدقة ، فيجوز أن يكون معاذ أراد ذلك في قوله في الصدقة . قلت : قال السروجي قال هذا القاضي أبو محمد ، ثم قال : ما أقبح الجور والظلم منه ، وما أجهله بالنقل ، إنما جاءت تسمية الجزية بالصدقة من بني تغلب ونصارى العرب بالتماسهم في خلافة عمر - رضي الله تعالى عنه -  ، فقال هي جزية فسموها ما شئتم ، وما سماها المسلمون صدقة قط .
فإن قلت قال الطرطوشي قال معاذ للمهاجرين والأنصار بالمدينة ، وفي المهاجرين بنو هاشم وبنو المطلب ولا تحل لهم الصدقة ، وفي الأنصار أغنياء لا تحل لهم الصدقة ، فدل على أن ذلك جزية ، قلت : قال السروجي ركة ما قاله ظاهرة جداً ، وهو تعلق بحبال الهوى وخبط العشواء ، لأنه أراد بالمهاجرين والأنصار من تحل له الصدقة لا من تحرم عليه ، وكذا الجزية لا تصرف إلى جميع المهاجرين والأنصار بل إلى مصارفها المعروفين فافهم ، فإن قلت إن قصة معاذ اجتهاد منه فلا حجة فيها ، قلت : كان معاذ أعلم الناس بالحلال والحرام ، وقد بين له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسله إلى اليمن ما يصنع به [العيني ، عمدة القاري ، ج9، ص5] .
وقد أجاب بعين جوابه على الإعتراض الأخير الحافظ ابن حجر في الفتح [فتح الباري ، ج3 ، ص313] .
وحمل بعضهم ما فعله معاذ على أنه كان واقعة حال لا دلالة فيها ، لاحتمال أن يكون علم بأهل المدينة حاجة لذلك ، وقد قام الدليل على خلاف عمله ذلك ، وأجاب عنه الإمام السالمي : بأن الحاجة لا تبيح ما كان ممنوعاً ، على أنه يمكنه أن يبيع الحب ويشتري الثياب فتندفع الحاجة [معارج الآمال ج16، ص213] .
وأنتم ترون أن محور الاستدلال لجواز دفع البدل عن الجنس في زكاته الأثر المروي عن معاذ - رضي الله عنه - وهو مذهب صحابي ، والخلاف بين الأصوليين والفقهاء في حجية مذهب الصحابي مشهور ، ولكن بما أن ما كان من معاذ لم يكن بعد عهد النبوة وإنما كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ما يأخذه من الأثواب في مقابل الحبوب الواجبة في الزكاة يبعثه إلى المدينة المنورة ، حيث مستقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخامر العقل شك في أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - كان على علم بصنيعه ، وهذا يعطي الدليل دفعة من القوة لا يستهان بها ، كيف وعند علماء الحديث أن قول الصحابي : كنا نؤمر بكذا أو ننهى عن كذا يعطي حكم الرفع ، لأن قوله هذا يدل على أن الأمر والنهي المعنيين قد كانا في عهد النبوة ، حيث يتلقى الكل الأوامر والنواهي التشريعية عنه - صلوات الله وسلامه عليه - ، غير أن انقطاع السند بين طاوس ومعاذ يوهي حجية هذا الأثر ، أما ما أورده الإمام البخاري إثره من الروايات الصحيحة لعضد ما استدل به عليه ، فإن دلالتها على ذلك أوهى من دلالة الأثر إذ لا تشتم إلا من بعيد .
هذا ، ويبدو واضحاً من أقوال علمائنا الذين جوزوا إعطاء البدل في الزكاة أنهم راعوا مصلحة الفقير وسد حاجته ، والصور المحكية عنهم في ذلك توحي بأنهم متفاوتون في توسيع دائرة الرخصة وتضييقها .
ومن أمثلتها ما في منهج الطالبين للعلامة الشقصي قال : ((وسئل أبو الحواري - رحمه الله - عن رجل معه زكاة مثل حب أو تمر ، فيرى فقيراً أو يتيماً فقيراً عرياناً فيأخذ له ثوباً فيعطى ثمنه من ذلك الحب أو التمر كما يكون السعر في البلد ، فإن كان الذي تجب عليه الزكاة يشتري الثوب من عند غيره أو يعطى كراء النساج فلا بأس بذلك ، وهو جائز في بعض القول ، وإن أعطى الثوب من عنده أو عمله بيده وحسب ذلك من زكاته فلا يجوز ، وقد قيل في بعض القول إن أعطى فقيراً ثوباً وحسبه من زكاته أن ذلك جائز ، ويروى أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قد فعل ذلك ، وسواء كانت الزكاة من الحب أو التمر أو الورق ، أشار بذلك على الفقير أو لم يشر عليه ، أعلمه بذلك أو لم يعلمه إذا قبضه الفقير وصار إليه ، وكذلك إن طحن من حب الزكاة أو خبزه وأطعمه الفقراء وابن السبيل فجائز ذلك كله ، ولو كان في يوم العيد واشترى للفقير لحماً أو ضحية في يوم الأضحى جاز ذلك إن اشترى من عند غيره ، وأما إن أعطاه من عنده وحسب ثمنه من زكاته فلا يجوز له ذلك على القول الذي نأخذ به ، وأما فيما يروى عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - فهو جائز كان ذلك من عنده أو من عند غيره ، وقول إنه لا يجوز من هذا كله شيء إلا أن يسلم الزكاة للفقير كما وجبت ، ثم يفعل الفقير فيها بعد ذلك ما يشاء[الشقصي - منهج الطالبين وبلاغ الراغبين ، ج5، ص190ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان - .وانظر كذلك بيان الشرع للعلامة محمد بن إبراهيم الكندي ، ج19 ، ص205 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان . وكتاب المصنف للعلامة أبي بكر أحمد بن عبدالله الكندي ، ج6 ، ص248 -249 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان].
ويتلخص من هذا أن في المسألة ثلاثة أقوال :-
أولها : عدم جواز إعطاء البديل مطلقاً .
وثانيها : جوازه بشرط أن يشتريه صاحب المال من غيره ، مراعاة منه لمصلحة الفقير لا أن يدفعه من عنده ابتداء ، والظاهر أن هؤلاء نظروا إلى أن الجنس هو الأصل ، وأن دفع غيره معاوضة ، والمعاوضة لا تكون إلا بين متعاوضيين ، فلا يجوز أن يكون البائع هو عين المشتري .
وثالثها : الجواز مطلقاً ، أخذاً بما دل عليه الأثر المروي عن معاذ - رضي الله عنه -  .وفي منهج الطالبين أيضاً ما نصه : ((وفي جواب موسى بن محمد ما تقول فيمن وجبت عليه زكاة شعير ، فأتاه فقير فقال له : تأخذ مني بدل ما يقع لك من زكاة هذا الشعير لك ذرة ، أو وجبت عليه زكاة بر وأراد أن يفرقها فقال للذي يعطيه تأخذ مني بالذي أعطيك من زكاة البر شعيراً، ففعل ذلك الفقير : قال: إن فعلا ذلك برأيهما فلا بأس بذلك ، إن كان ذلك بعدل من السعر ، وقول إن ذلك لا يجوز ، وقيل إنه يجوز أن يدافع الفقير من عليه زكاة بما على الفقير له من الدين ويبرأ من ذلك ، وكذلك يجوز أن يقترض الفقير من صاحب الزكاة بالدراهم عروضاً على ما اتفقا عليه ، وقيل إذا أقام الفقير وكيلاً يقبض له الزكاة جاز ذلك لمن يسلم له من الزكاة ، وقيل لا يجوز ذلك على حال ، وقيل يجوز ذلك إذا صار للفقير من يد الوكيل ، وقيل إذا أنفذه الوكيل بأمر الفقير حيث يأمره بإنفاذه جاز ذلك ، وقيل لا يجوز أن يدافع الفقير بما عليه من الدين بالزكاة ، ولا يأخذ بالدراهم عروضاً ولا بالعروض دراهم من صاحب الزكاة ، وأجاز ذلك من أجازه ، ويروى أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال يفترض الثوب وغيره من العروض من الزكوات وهو وال على اليمن ، وكان فقيه الأمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))[منهج الطالبين ، ج5 ص190-191 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان. وانظر بيان الشرع ج19 ، ص53-54 ، ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان. والمصنف ج6، ص250-251 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان] .
وفي هذا الكلام المحكي هنا تأكيد لما سلف من اختلاف العلماء في إعطاء الفقراء بدل ما يستحقونه من زكوات الأموال بسعره ، مع إيراد الاختلاف في المقاصصة بين الفقير وصاحب المال ، وذلك بأن يحط الغني عن الفقير من دينه الذي عليه له بقدر ما يريد أن يعطيه من الزكاة ، فقيل بجوازه مطلقاً ، وقيل بعدمه على الإطلاق ، وقيل بجوازه بشرط أن يكون للفقير وكيل يقوم مقامه ، ولم يتبين وجه هذا الاشتراط فإن ما يمكن أن يقوم به الوكيل يمكن أن يقوم به الأصيل ، والذين جوزوا ذلك لا ريب أنهم نظروا إلى مصلحة الطرفين، فإن صاحب المال يستفيد بذلك اقتضاء دينه ، والفقير يستفيد به فكاك رقبته من ربقة الدين .
وفي المنهج أيضاً : ((سئل أبو محمد - رحمه الله - عمن يمسك زكاته حتى ينزل به ضيف يطعمه منها يريد بذلك توفير ماله ؟ فقال : الذي حفظناه أن الزكاة لا يراد بها توفير المال ولا مكافأة ، فإن نزل به أحد ممن يستحق الزكاة وأطعمه منها ، وعرفه أنه من الزكاة من قبل أن يطعمه ، فأرجو أن لا يكون عليه غرم - إن شاء الله - ، وقال أبو سعيد - رحمه الله - : إن من وجبت عليه الزكاة في حبوب مختلفة رديء ووسط وجيد ، فقيل يجوز أن يعطى من الرديء والوسط بقيمته عن الجيد، وقيل لا يجوز إلا أن يخرج من الجيد عن الرديء مكوك بمكوك وكذلك من الوسط ، لأنه يخرج الأفضل عن الأدون عند صاحب هذا القول ، ولا تجوز عنده القيمة  ، وكذلك فيمن معه شيء من زكاة ماله ، فأراد أن يأخذه ويعطي بدله ، - قال - إذا ميّز ذلك من ماله ليؤديه ولم يكن أنفذه ، فله الخيار إن شاء أمسكه وأعطى مكانه أفضل منه وإن شاء أنفذه ،  قيل له : وإذا كانت الزكاة من عنده ، وأبدل منه ما هو أدون منه ، إلا أنه أكثر منه هل يكون سواء ؟ قال : إذا لم يكن مثلاً من الزكاة أو أفضل منها خرج بمعنى العروض في بعض ما قيل ، ويختلف في أداء الزكاة من غير ما يلزم من العروض بالقيمة من الدنانير والدراهم ، فأجاز ذلك بعض ، ولم يجزه آخرون إلا أن يكون القابض إماماً أو والي إمام ، لأن لهم الزكاة خاصة ، فإن كانت لهم دون غيرهم فإن شاءوا أخذوها، وإن شاءوا أخذوا بها ما شاءوا من غيرها ، وليس كذلك الفقير في معاني هذا القول»[منهج الطالبين ، ج5 ص190-191 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان. وانظر بيان الشرع ج19 ، ص54-55 ، ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان. والمصنف ج6، ص251-252 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان] .
ويستفاد من هذا الذي نقلناه أن من العلماء من يفرق بين أن يكون قابض الزكاة إمام المسلمين أو واليه ، وبين أن تعطى الفقراء مباشرة ، فيترخص في الحالة الأولى أن يكون الدفع من غير الجنس الواجبة فيه الزكاة ، ولا يترخص في ذلك في الحالة الثانية ، لأن الإمام أولى بالنظر في مصالح المسلمين جميعاً ، ومن بينهم الفقراء الذين تجب لهم الزكاة ، فينظر في القبول والرفض ما يعود عليهم بالمصلحة ، وهذا معنى كون الزكاة لهم دون غيرهم ، إذ الإمام وولاته ليس لهم الاستئثار بالزكاة ، وإنما غاية ما يخولونه فيها وفي غيرها النظر في مصالح الأمة .
تثمير أموال الزكاة:
حدد الله في كتابه مصارف معينة للزكاة في قوله عز من قائل : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } [التوبة : 60] ، ولا يجوز لأحد صرف الزكاة في غير هذه المصارف المشروعة بنص الكتاب ، وما من شك أنه لا يتسنى لأي أحد أن يضعها بنفسه في جميع هذه المصارف، لتوقف ذلك في بعضها على وجود ولي أمر للمسلمين ، يضع كل شيء في نصابه الشرعي ، فيأخذ الزكاة بحقها ويضعها في مستحقها ، إذ من هذه المصارف سبيل الله ، وهو مصرف واسع يشمل وجوهاً شتى من مصالح الأمة في دينها ودنياها ، والقائم برعاية ذلك كله هو ولي أمر المسلمين ، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويقيم فيهم حدود الله وينفذ فيهم أحكامه ، فإنه أجدر برعاية مصالحهم ، وأحق بجمع صدقاتهم ووضعها حيث أمر الله ، فيعطي الفقراء والمساكين والعاملين عليها وسائر الأصناف المفروضة لهم مستحقاتهم منها بحسب ما يقتضيه ميزان العدل ، أما مع انفراط عقد المسلمين وعدم وجود من يقوم برعاية مصالحها ، فإن كل واحد منهم مطالب بأن يتحرى الأمانة والعدل في أداء ما فرض الله عليه من زكاة ماله .
هذا ، ولم أجد في شيء من كتب الفقه السابقة تعرضاً لاستثمار أموال الزكاة قبل وضعها في مواضعها ، وإنما أفادت مراجع الفقه وغيرها ما ذكرته من قبل من اختلاف نظرة الفقهاء بين التوسعة والتضييق في بعض المسائل، بناء على اختلاف نظرتهم في ترجيح أحد الأصلين على الآخر ، فمن راعى جانب التعبد شدد في ذلك ، ومن راعى جانب المصلحة كان بخلافه .
ولئن كانت المصلحة هي المحور الذي يدور عليه الفقهاء الموسعون ، فإن قضية الاستثمار يجب أن تكون موضوعة في إطار المصلحة ، فيحكم بجوازه أو منعه بناء على ثبوتها أو انتفائها ، إلا أنه لا يمكن أن يترك الحبل على الغارب في ذلك ، فيباح لكل أحد أن يتصرف وفق ما يدعيه من المصلحة التي يراها ، وإنما ولي أمر المسلمين الأمين هو بمثابة الوكيل الشرعي لهم جميعاً في رعاية مصالحهم، فإن وجد أن الزكاة قد سدت حاجة الفقراء والمساكين ، وكانت بيده فضلة منها لو تركت لاستهلكت ، فلا مانع في هذه الحالة-  حسب نظري - من استثمار هذه الفضلة الزائدة عن حاجة أهلها فيما يعود عليهم بالنفع الأعم .
وربما كان في صنيع عمر - رضي الله تعالى عنه - عندما حبس الفيء على المسلمين لينتفعوا بريعه من غير أن يقتسموا أصله - ما يستأنس به لصحة هذا النظر وسلامة هذا الاتجاه ، وكذلك صنيعه - رضوان الله عليه - عندما رأى الإسلام اشتد عوده وعظمت منته ، وبسقت دوحته ، ولم يكن بحاجة إلى استعطاف المؤلفة قلوبهم لاستدرار نفعهم واتقاء ضرهم ، وقف عنهم سهمهم من الزكاة ، وليس ذلك إلا لما أبصره من حكمة التشريع ، وأدركه من أبعاد المصلحة ، فإن مشروعية إشراكهم في الزكاة ما كانت إلا لاجتلاب نفعهم ودفع ضررهم  ، وبما أن المسلمين أصبحوا في غنى عن ذلك لما آتاهم الله تعالى من قوة ، ووهبهم من تمكين ، رأى ذلك الخليفة الراشد البصير أن بقية مصارف الزكاة هي أولى بالتوفير ، فوقف عنهم هذا السهم ، وكان ذلك على مرآى ومسمع من سادة الأمة المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -  ، ولم يكن منهم نكير ، فكان ذلك إجماعاً سكوتياً .
ولئن ساغ اجتهاد ولي الأمر في ذلك عندما يرى مصلحة الفقراء والمساكين متعينة في استثمار نصيبهم من الزكاة، بعد سداد خلتهم وإشباع مسغبتهم ، فإنه لأحرى أن يجوز في نصيب المصرف السابع وهو سبيل الله ، لأنه من أصله موكول إليه ومردود إلى نظره ، وقد نص الفقهاء على أن له أن يشتري به ما يراه مصلحة للمسلمين لأجل إعلاء كلمتهم وحماية بيضتهم ، ففي الإيضاح ما نصه:(وكذلك جائز له - أي للإمام - أن يشتري من الصدقة العدة والسلاح والخيل للجهاد)[العلامة الشماخي -الإيضاح ، ج2 ، ص120 ، ط دار الفتح]، لأنه قال الله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة : 60] .
بل نص على أن عامل الإمام في الزكاة يجتهد وسعه فيما يعود بالمصلحة على أصنافها بعد ما تكون في يده إلى أن يدفعها إلى إمامه ، ففي الإيضاح أيضاً :-
((وكذلك العامل هو الناظر فيما استعمل عليه ، وفي جميع ما يصلح له البيع ، وفي شراء ما يصلح له الشراء)) [المرجع السابق ص120-121] .
ونحوه في النيل وشرحه [انظر شرح النيل وشفاء العليل للإمام العلامة محمد بن يوسف اطفيش، ج3 ،ص247 ، ط مكتبة الإرشاد -جدة -دار الفتح- بيروت] .
ويقال مثل ذلك في سهام بقية المصارف ، ما عدا العاملين ، فإن ولي أمر المسلمين هو الناظر لمصلحتهم جميعاً ، والراعي لحقوقهم ، والمؤتمن على دينهم ودنياهم ، ولابد له من استشارة فقهاء الأمة وذوي الخبرة والحنكة في مصالحها.
وخلاصة القول أن استثمار أموال الزكاة إنما ينبني جوازه على رأي الذين غلبوا الجانب المصلحي فيها ، ولابد - في نظري - من أن يكون القائم بذلك هو ولي أمر المسلمين ، نظراً لما هو الأصلح ، وحرصاً على ما هو الأوفر لمستحقي الزكاة ، مع استشارة لأهل النظر من خبراء وفقهاء ، والله ولي التوفيق الهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تفاصيل المقال تكتب هنا