القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
الإسبال
بتاريخ 13 يوليو 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فإن صدق الإيمان يبعث الإنسان المؤمن إلى أن يصوغ حياته وفق المباديء التي آمن بها ، ولو كان في ذلك خروجه من أحب شيء إليه ، وأشد الأمور اتصالاً ببيئته التي نشأ فيها وتقلب في أكنافها ، ومن ثمَّ كانت تلكم النقلة البعيدة للمؤمنين الأولين من حياة الجاهلية التي نشأوا عليها، إلى حياة الإسلام التي صاروا إليها فقد أداروا ظهورهم لكل ما هو جاهلي ، وأقبلوا بوجوههم إلى كل ما هو إسلامي ، مهما كانت ألفتهم لما أداروا له ظهورهم ومشقة ما أقبلوا عليه بوجوههم ، ولا غرو فقد رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا وبالقرآن حجة ودليلا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب : 36]، وما كانوا يفرقون في الدين بين ما هو جزئي وما هو كلي، أو بين ما هو جوهري وما هو شكلي ، لأن الكل من الدين الذي فرضه الله ،، فلا مناص عن تقبله والرضوخ له ، وبهذه الروح الإيمانية الدافقة بالحياة العملية المجسدة لشرع الله كان ذلكم السلف العظيم أمة مثالية خضعت لها رقاب الأمم ، وأسلمت لهم الدنيا قيادها، وعندما أخذ ذلك المد الإيماني ينحسر في الخلف - الذين حملوا أمانتهم فلم يحملوها حق حملها ، ولم يقدروها حق قدرها - أخذوا يفرطون في كثير من واجبات الدين ، مدعين تارة أنها من شكلياته وليست من جوهرياته ، وتارة أنها لا تتلاءم مع روح العصر ومقتضيات الحضارة الحديثة ، كأن الإسلام - دين الله الحق الذي وسع السموات والأرض - لم يتسع لمتطلبات هذا العصر ومقتضيات حضارته ، مع أننا جميعاً موقنون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يغادر هذه الأمة إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن حل لها كل مشكلة ، وبصرها بكل ما تأتي وما تذر في الأمور الخاصة والعامة ، والقضايا الكلية والجزئية ، فقد علّم - صلى الله عليه وسلم - الإنسان المسلم كيف يأكل وكيف يشرب ، وكيف  يلبس وكيف ينتعل ، وكيف يركب ، وكيف يمشي ، وكيف يقضي حاجته السرية ، وكيف يفرز فضلات جسمه ، وهو في ذلك كله {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} [النجم : 1 - 2]     وقد ألف الناس كثيراً من العادات المنكرة ، فسرت في أوساطهم سريان النار في الهشيم ، وتعمقت في المجتمعات حتى أصبحت كالخصال الفطرية المطبوعة ، وصار المخالف لها شاذا في مجتمعه محتقراً بين قومه ، ومن بين هذه العادات - التي يعاني منها مجتمعنا - ما استحسنه كثير من رجال عصرنا من الإسبال المذموم شرعاً ، فقد تفشت ظاهرة إسبال الثياب ، حتى أتت على العامة ، وشملت كثيراً من الخاصة ، وبلغ من ألفة الناس لها واستحسانهم إياها أن صاروا يستخفون بمن عمل بالسنة النبوية فلبس إلى أنصاف ساقيه ، كأن رجولة الإنسان لا تكمل عندهم حتى يغطي قدميه ، ويمسح الأرض بفضل ثوبه، وإذا ذكر أحدهم بما في ذلك من وعيد ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ يتملص تارة بدعوى أنه خاص بإسبال الإزار دون سائر الثياب ، وأخرى بأنه فيمن قصد به الخيلاء ولسنا منهم ، هكذا يسول لهم الشيطان ويملي لهم ، إلى أن عاد عندهم المنكر معروفا والمعروف منكرا .
     ومن حيث إن كثيراً ممن يؤمون المصلين غشيتهم غاشية من هذه الفتنة ، فاحتملهم سيلها الجارف ، ورمت بهم أعاصيرها الهوجاء في مكان سحيق من قعرها ، أقبل كثير من الذين نور الله بصائرهم بالإيمان ، وشرح صدورهم للحق على السؤال عن حكم الصلاة وراء هؤلاء الأئمة المسبلين ، وعندما أجبتهم ببطلان صلاتهم وصلاة من صلى خلفهم دارياً بحالهم عارفاً بحكمهم ، استنكر ذلك كثير من الناس ، ورأوني قد جئت شيئاً إدا لا يعدو أن يكون مصدره عقم التفكير وسوء الفهم لروح التشريع ، وما ذلك إلا لأنهم حكّموا العادة في الدين وآثروا الهوى على الدليل ، وركنوا إلى التقليد الأعمى ، وجنفوا إلى المماحكة الرعناء ، وما أبلغ قول القائل :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد                وينكر الفم طعم الماء من سقم
وقد وجه إليّ أخيراً بعض الشباب المتقين - حرسهم الله من كل سوء - سؤالاً طلبوا فيه جواباً شافياً في هذه المسألة ، مدعوماً بالحجج الساطعة ، مستأصلاً للشبه التي يماحك بها من ماحك فيها ، فحررت له هذا البحث مقسماً على العناوين التالية :
1- التشديد في الإسبال .
2- لا فرق بين الإزار وغيره في حكم الإسبال .
3- الخيلاء صفة لازمة للإسبال .
4 - صلاة المسبل والمؤتم به .
وقد يتساءل بعض الناس لم هذه العناية بهذه القضية التافهة  ؟ أو ليس الواجب أن تصرف هذه العناية إلى القضايا الأساسية في الدين ؟
والجواب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عنى كل العناية بهذه القضية وأمثالها ، ولم يكلها إلى فهوم الناس أنفسهم ، وقد بلغت عنايته - عليه أفضل الصلاة والسلام - بها أنه كان كلما رأى مسبلاً سارع إلى الإنكار عليه ، وقد شغلت هذه القضية جانباً لا يستهان به من أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - وستقف على جانب منها - إن شاء الله - في هذه العجالة - ، فلو كانت قضية تافهة لما استحقت هذه العناية البالغة منه - عليه الصلاة والسلام - في وقت كان يواجه فيه جحافل الجاهلية ، وتحديات المشركين ، ومكائد أهل الكتاب ، ومؤامرات المنافقين ، ولنا فيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، وإذا شاع المنكر وجب الحزم في مقاومته ، والجد في مناهضته ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة دين في ذمة كل قادر ، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لقول الحق والعمل به ، وأن يجنبنا كبوات الأفهام، ومزلات الأقدام ، وعثرات الألسن والأقلام .
التشديد في الإسبال:
الإسبال لغة : إرخاء الشيء وإرساله ، يقال أسبلت السحابة ماءها إذا أمطرت، وأسبلت العين دمعها إذا جرى ، وأسبل الفرس ذنبه إذا أرخاه [راجع لسان العرب جـ3 ص 1930-1931 ، دار المعارف]. ويطلق في العرف الفقهي على معنى لا يخرج عن مدلوله اللغوي ، وهو إرخاء الثياب حتى تجاوز الكعبين ، وهو من منكرات اللباس ، لما فيه من البطر والخيلاء المحرمين شرعاً ، وقد شدد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فزجر عنه وتوعد عليه بما لا يدع مجالاً للريب في كونه من الكبائر المردية - والعياذ بالله -. وإليك طرفاً مما نقل عنه في ذلك :
1- روى الإمام الحافظ الحجة الربيع بن حبيب - رحمه الله - عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، وما أسفل ذلك ففي النار - قال ذلك ثلاث مرات - ، ولا ينظر الله إلى من يجر إزاره بطرا " ، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ ، والإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم ، عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي سعيد وصححه أبوعوانة وابن حبان ، وقال الحافظ في الفتح ورجاله رجال مسلم [فتح الباري جـ10 ص256 ، ط المطبعة السلفية] .
ولفظه عند مالك سألت أبا سعيد الخدري عن الإزار فقال : أنا أخبرك بعلم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا "، ولفظه عند أبي داود ، سألت أبا سعيد عن الإزار فقال :على الخبير سقطت ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إزرة المؤمن إلى نصف الساق ، ولا حرج - أو ولا جناح - فيما بينه  وبين الكعبين ، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار ، من جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه" ، ورواه الطبراني من طريق زيد ابن أبي أنيسة عن العلاء عن نعيم المجمر عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، وأخرجه النسائي عن محمد بن عمرو ومحمد بن إبراهيم التيمي جميعاً ، عن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وصحح النسائي الطريقين معاً ، ورجح الدارقطني الأول [المرجع السابق] .
2- روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" .
3- أخرجه من طريقه أيضاً مالك في الموطأ والبخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا".
4- روى الإمام الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك - رضي الله عنهم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل يجر ثوبه خيلاء " .
5-  روى النسائي من طريق ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا ينظر إلى مسبل " .
6- روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنك لست ممن يفعله خيلاء" ، وليس في قوله هذا عذر لمن تعمد الإسبال ، مدعياً أنه لم يرد به الخيلاء ، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - ما كان يتعمده ، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - في محله .
7- قال البخاري في صحيحه : حدثنا مطر بن الفضل ، حدثنا شبابة ، حدثنا شعبة قال : لقيت محارب بن دثار على فرس وهو يأتي مكانه الذي يقضي فيه ، فسألته عن هذا الحديث ، فحدثني فقال: سمعت عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "من جر ثوبه مخيلة لم ينظر الله إليه يوم القيامة" ، فقلت لمحارب : أذكر إزاره ؟ قال: ما خص إزاراً ولا قميصاً ، - قال البخاري - : تابعه جبلة بن سحيم وزيد بن أسلم وزيد بن عبد الله عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،  وقال الليث عن نافع عن ابن عمر مثله ، وتابعه موسى بن عقبة وعمر بن محمد وقدامة بن موسى عن سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم "- من جر ثوبه خيلاء " .
8- روى مسلم في صحيحه عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم كلهم يروون عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء " ، وعن نافع عنه بلفظ " إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة " ، وعن سالم عنه بلفظ : من جر ثوبه
من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، وروى من طريق شعبة قال سمعت من مسلم بن يناق يحدث عن ابن عمر أنه رأى رجلاً يجر إزاره ، فقال له: ممن أنت ؟ فانتسب له ، فإذا رجل من بني ليث فعرفه ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة » .
وكفى بهذه الأحاديث الناصة على حرمان المسبل من نظرة الله إليه زجراً بالغاً وتقريعاً رادعاً { لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق : 37] ، فأشفق على نفسه من عقاب الله عن التلبس بهذه الفعلة المهلكة ، والروايات في هذا أكثر  من أن تحصيها هذه العجالة ، وسيأتي بعض ما لم أذكره - إن شاء الله - في أثناء فصول هذا البحث ، ولعل أشد ما روي في ذلك وعيداً وأبلغه تخويفاً وتحذيراً ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم » قال أبو ذر قلت : من هم يا رسول الله؟ فقد خابوا وخسروا ، فأعادها ثلاثا ، قلت : من هم خابوا وخسروا ؟ قال : "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب أو الفاجر " .
ولشدة غضب الله على المسبل ربما لم يمهله إلى الآخرة ، بل يعجل عليه العقوبة في الدنيا ، فقد أخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة » ، فما الذي يؤمن المسبلين من أن يهلكهم الله بعذاب من عنده في الدنيا قبل ما توعدهم به في الآخرة .
لا فرق بين الإزار وغيره في حكم الإسبال:
إن كثيراً من الذين زين لهم إسبال الثياب يماحكون في ذلك ، بدعوى أن حرمة الإسبال والوعيد عليه منحصران في الإزار دون غيره من الثياب ، ومن المعلوم أنه لو لم يذكر إلا الإزار وحده في الحديث لما كان فيه دليل على انتفاء حكمه عن غيره من الثياب ، إذ لا يخرج ذلك إلا مخرج الاستدلال بمفهوم اللقب، وهو أضعف المفاهيم باتفاق الأصوليين والفقهاء ، ولذلك لم يأخذ به إلا قلة نادرة من الفقهاء ، فما بالك والأدلة متضافرة على انطباق حكم الإزار نفسه على سائر الثياب ، ودخول كل مسبل فيما جاء من الوعيد ، ومن ذلك ما سبق الاستشهاد به فيما تقدم، كحديث أنس عند الربيع ولفظه " لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل يجر ثوبه خيلاء " ، وحديث ابن عمر عند البخاري وأبي داود والنسائي ، ولفظه " من جر ثوبه خيلاء ..إلخ " ، وحديثه عند البخاري بلفظ " من جر ثوبه من مخيلة .. إلخ " وفيه "قلت لمحارب أذكر إزاره ؟ قال : ما خص إزاراً ولا غيره " ، وأحاديثه عند مسلم منها بلفظ " لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء " ، ومنها بلفظ " إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه " ، وآخر بلفظ " من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " .
وروى من طريقه الطبراني أنه قال : رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسبلت إزاري فقال : "يا ابن عمر كل شيء يمس الأرض من الثياب في النار" ، وأخرج من طريقه أبو داود والنسائي وابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر شيئاً منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، وهو حديث صحيح السند ، صححه النووي في كتاب الإيمان من شرحه على مسلم ، وأحال عليه في كتاب اللباس ، ولا يطعن فيه ما قيل في عبد العزيز ابن أبي رواد من رجال سنده، فإنه من رجال البخاري ، وهو مولى للمهلب بن أبي صفرة ، فلا يقدح فيه عدم معرفة أبي بكر بن أبي شيبة له. وروى أبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإزار فهو القميص ، ويؤكد ذلك أن الصحابة - رضوان الله عليهم - عندما سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوعيد في إسبال الإزار فهموا انطباق حكمه على كل ثوب ، وأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ما فهموا ، ومن أدلة ذلك ما أخرجه الإمام الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم - أن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  لما ذكر الإزار قالت أم سلمة - رضي الله عنها - : والمرأة يا رسول الله ؟ قال : "ترخي شبراً " ، قالت : إذا ينكشف عنها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فذراعاً لا تزيد عليه" ، وروى نحوه الإمام مالك في الموطأ عن أبي بكر بن نافع مولى ابن عمر عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة ، ورواه من طريق أم سلمة أيضاً أبو داود والنسائي ، وروى الترمذي والنسائي من طريق نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" ، فقالت أم سلمة : فكيف تصنع النساء بذيولهن ؟ قال : يرخين شبرا"، فقالت أم سلمة إذًا تنكشف أقدامهن ، قال : فيرخين ذراعا لا يزدن عليه " ، وفي رواية أبي داود عنه : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً فاستزدنه فزادهن شبرا ، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا .
ووجه هذه الدلالة أن أم سلمة وغيرها من أمهات المؤمنين  - رضي الله عنهن فهمن من ذكر الإزار شمول حكمه لجميع الثياب ، وإلا لما استفهمن عن حكم النساء مع أنه يجررن ذيول قميصهن ، وقد أقرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما فهمن ، واستثنى النساء من عموم هذا الحكم ، فأمرهن بإرخاء شبر ، فاستزدنه فزادهن شبراً آخر فكان ذراعا ، ولو كان حكم الإسبال خاصاً بالإزار لما أشكل عليهن ذلك ، ولأبانه  - صلى الله عليه وسلم  - في جوابه . وإجازة النبي  - صلى الله عليه وسلم  - الإسبال للمرأة للضرورة التي يقتضيها الستر الواجب عليها ، قال العلامة الباجي في المنتقى : " وهذا يقتضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم  - إنما أباح ما أباح منه للضرورة إليه ، وهذا لفظ أفعل وارد بعد الحظر ، ومع ذلك فإنه يقتضي الوجوب ، لأنه نهي عن إرخاء الذيل، ثم أمر المرأة بإسبال ما يسترها منه وذلك على الوجوب ، ولا يحل للمرأة أن تترك ما تستتر به " [المنتقى شرح موطأ مالك للإمام الباجي ، ج7 ، ص227، ط دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان] ، وقال الإمام نور الدين السالمي - رحمه الله تعالى - : "وإنما جاز لها ذلك لأن المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها ، وهذا التعليل مستفاد من قولها ، (إذاً ينكشف عنها) ، فإن فيه إيماءاً إلى أن العلة في ذلك الستر" [شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب الجزء الأول ص402 ط2] .، وما ورد من النص في حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي وابن ماجة على أن الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، لا يدل على أن ما عداها من الثياب لا ينطبق عليه حكمها ، لأن ورود الحكم في مطلق الثوب في روايات صحيحة لا يخصصه ذكر بعض أنواع الثياب في روايات أخرى ، إذ لا يخصص الحكم العام ذكره لبعض أفراد ما يدل عليه عمومه ، ولذلك قال ابن حزم : "وحق كل ثوب يلبسه الرجل أن يكون إلى الكعبين لا أسفل البتة" [ابن حزم المحلى ج4 ص99ط ، مكتبة الجمهورية العربية لصاحبها عبدالفتاح مراد شارع الصنادقية بجوار الأزهر بمصر] ، ونص ابن رسلان على دخول الطيلسان والرداء والشملة في حكم الإسبال [نيل الأوطار ، ج2، ص114 نشر وتوزيع إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية نقلاً عن ابن رسلان] . وقال الآبي  "والثوب عام في الثوب والإزار وفي المصنفات حديث « الإسبال للإزار والقميص والعمامة من جر شيئا منها لم ينظر الله إليه» [الآبي في شرحه على صحيح مسلم المسمى إكمال إكمال المعلم المجلد الخامس ص384 ط دار الكتب العلمية بيروت] . وسئل ابن تيمية عن طول السراويل إذا تعدى الكعب هل يجوز؟ فأجاب : طول القميص والسراويل وسائر اللباس إذا تعدى ليس له أن يجعل ذلك أسفل الكعبين كما جاءت بذلك الأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : "الإسبال في السراويل والإزار والقميص " يعني نهي عن الإسبال [مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد 22 ص144] .
وقال ابن القيم " وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، وفي السنن عنه أيضاً - صلى الله عليه وسلم - قال "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر شيئاً منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، وفي السنن عن ابن عمر أيضاً عنه قال : "ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص " [ابن القيم -زاد الميعاد في هدي خير العباد- ج1-ص37- ط المؤسسة العربية للطباعة والنشر- بيروت - لبنان].
وذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم أن الحديث الصحيح دل أن الإسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة [النووي شرح صحيح مسلم جـ14 ص62 ط المطبعة العمصرية ومكتبتها].وقال الإمام نور الدين السالمي - رحمه الله تعالى - في شرحه حديث أنس "لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل يجر ثوبه خيلاء" - أي كان إزاراً أو غيره كما جاء في حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي وابن ماجة مرفوعاً "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر شيئاً منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" ، قيل ومثل ذلك الطيلسان والرداء والشملة»[شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع الجزء الأول ص405 ط2] .وبما ذكر يتبين شمول هذا الحكم لما كان كالبشت والجبة أيضاً ، وقد نص على الجبة ابن العربي [ابن العربي عاضة الأحوذي بشرح صحيح  الترمذي ج2 ص236 ط دار العلم للجميع] .وذكر الإزار في أغلب الروايات لما ذكره الطبري في قوله « وإنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي [فتح الباري ج10 ص362 المطبعة السلفية ومكتبتها] ، وتعقبه ابن بطال بقوله "هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك [المرجع السابق].
وما أورده الطبري لا ينافي ما قاله ابن بطال ، لأن أغلب الروايات نصت على الإزار للمعنى الذي ذكره ، وقد أوضح ذلك الآبي بقوله : "وإنما خص الإزار في بعض الأحاديث لأنه أكثر ما كان الجر فيه في عهده - صلى الله عليه وسلم - " [الأبي إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم المجلد الخامس ص384 ط دار الكتب العلمية ببيروت].
قال الحافظ ابن حجر : وفي تصوير جر العمامة نظر إلا أن يكون المراد ما جرت به عادة العرب من إرخاء العذبات فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال ، وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: كأني أنظر الساعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفها بين كتفيه ، وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه ؟ محل نظر ، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعل بعض الحجازيين دخل في ذلك ، قال شيخنا في شرح الترمذي: ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه ، قال : ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيداً ، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها ، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به ، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه ، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع ، ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة [فتح الباري ج10 ص262 المطبعة السلفية ومكتبتها].
هذا وقد يقول قائل : إن كان الأمر كما تدعون ، فما بال بعض كبار علماء السلف - رحمهم الله تعالى - نص على خصوصية الإزار بحرمة الإسبال مستنداً في قوله إلى أن الوعيد إنما في الإزار وحده ؟ .
وجوابه ، لا يخلو من قال بهذا من علماء السلف ، إما أن يكون لم تبلغه الروايات التي ذكرناها في غير الإزار من الثياب، وإما أن يكون مطلعاً عليها إلا أنه ذهل عنها حال صدور هذا القول عنه ، وهو في كلا الحالين معذور ، ويعد قوله هذا من جملة الخطأ المعفو عنه ، ولا يعذر من قامت عليه الحجة باطلاعه على شيء من هذه الروايات في الإعراض عنها ، وتقديم رأي الرجال عليها ، لوجوب التسليم لما جاء عن الله أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وليس خفاء بعض أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - على أكابر العلماء فيفتوا بخلافها أمراً مريباً ، فإن إحاطة الإنسان أيا كان بجميع سنته - صلى الله عليه وسلم - متعذرة ، وناهيك أن كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - خفي عنهم الكثير منها ، ولربما كان أحدهم يجد ما خفي عليه من الأحاديث عند من هو أقل منه علماً وأدنى منه في الفضل رتبة ، غير أنهم - رضي الله عنهم - ما كانوا يتثبطون عن اتباع السنة والاحتكام إليها عندما تثبت عندهم روايتها ، وتقوم عليهم حجتها، وقد نقل العلامة ابن تيمية في رسالته التي سماها "دفع الملام عن الأئمة الأعلام" صوراً من ذلك .
والعالم وإن بلغ من مراتب العلم لا يكون قوله مع خلوه عن الدليل حجة يستدل بها في الأحكام ، فضلاً عن جواز ترجيح قوله على ما ثبت من سنته - عليه أفضل الصلاة والسلام - ، فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حجة يستدل بها ، أما قول غيره فهو بحاجة إلى أن يستدل له بما يبين حقه وصوابه، وقد أمرنا الله تعالى أن نحتكم عند التنازع والخلاف إليه وإلى رسوله - عليه الصلاة والسلام - حيث قال : {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء : 59] ، فما لنا وللمراء والجدال وحجة السنة قائمة ، وأعلامها خفاقة ، ودلائلها صريحة .
الخيلاء صفة لازمة للإسبال:
إن العاقل لينأى بنفسه عن موارد الإثم ومراعي الوباء ومنازل التهم ، ومن سولت له نفسه أنه - وإن ركب متن الدواهي واقتحم لج الأخطار -  في مأمن من السوء وسلامة من العطب ، فهو امرؤ غرور لنفسه أو مغرور بها ، وما من خطر يهدد سلامة الإنسان أخطر من عوامل الشر في نفسه ، وناهيك أن  عمر - رضي الله  عنه - قد أشفق على نفسه من نفسه فلم يأمن عليها النفاق ، وكان يسأل حذيفة - رضى الله عنه - صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان عنده نبأ عن النبي - عليه الصلاة والسلام - بأنه أحد المنافقين ، مع ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بشائر الخير له ، وما كان يتلى على ألسنة المسلمين من الثناء عليه بما هو أهله ،وما هم إلا شهود الله في أرضه ، فأنى لأحد أبناء عصرنا أو غيره من العصور الزاخرة بالفتن ، المتعفنة من أمراض النفوس أن يزكي نفسه ويأمن عليها من هواها، فيمد لها حبل رغباتها في إسبال الثوب أو غيره ، مدعياً أنها بمنأى من الريبة ، مأمونة من الخيلاء والبطر ؟! ألا ما أقتل هذا الغرور وما أعظم هذه المصيبة ! وما أشر هذه البلوى . أيرى هذا المغرور نفسه أبر وأطهر وأتقى وأزكى من نفوس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين مثلهم في التوراة والإنجيل ، وقد عطر القرآن الكريم أرجاء الكون بنشر محامدهم ، وتخليد ذكرهم بحسن ثناء الله عليهم ، وهم خير القرون قطعاً بشهادة أصدق خلق الله - عليه أفضل الصلاة والسلام - ، فأين - لعمر الله - الغزالة من الذبالة ، والثريا من الثرى ، والضراح من الضريح ؟! وهيهات أن تعلو التخوم النجوم ، أو يفضل الرعديد الصنديد ، ونحن نجد فيما دوّن من أخبار رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - وصح بالنقول الثابتة عنه أنه لم يكن يتسامح مع هؤلاء الصحابة الأطهار إن وجد أحدهم مسبلاً ثوبه ، بل كان يتشدد النكير عليهم في ذلك - كما سنقف عليه إن شاء الله قريباً - ، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر الناس بهم ، وأعلمهم بطهر سرائرهم وسلامة طواياهم ، وبعدهم عن البطر والاختيال ، فما بال هذا الذي يحرص على سمات أهل الخيلاء وصفات أهل الكبر ، فيرسل ثوبه يكتسح بفضله الأرض ، أو ليس حرصه على ذلك دليلاً بيناً على تلبسه بالخيلاء من حيث يعلم أو لا يعلم ؟ وإلا فما الذي دعاه إلى التشبه بالمختالين إلى حد أن يرى مخالفتهم في هذه الصفة نقيصة يتحاشاها ووصمة يربأ بنفسه عنها ، مع أنه يدعي عدم الانخراط في سلكهم والتأثر بطبعهم ، فما أبعد البينة عن الدعوى، وما أدل الواقع على عكس المدعى ، أو ليس "من تشبه بقوم فهو منهم" ؟ فما بالك بالمصر على التشبه الملازم لهذه الصفة ؟ .
فإن قيل إن النهي عن الإسبال والوعيد عليه قد اقترنا في أغلب الروايات بالخيلاء أو البطر ، وهو دليل تقييدهما بهما ، وإن كانا مطلقين في روايات أخرى ، لوجوب حمل المطلق على المقيد ، - كما اتفق عليه جمهور الأصوليين وفرع عليه الفقهاء أكثر المسائل الفقهية - ، ويؤيده أن كثيراً من شراح السنة ذهبوا إلى أن النهي والوعيد في الإسبال مقيدان بالخيلاء ، ويعضده قول رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - "لست ممن يصنعه خيلاء" .
فالجواب : نعم يحمل المطلق على المقيد مع انتفاء القرائن الدالة على غير قصد التقييد ، وقد دلت القرائن هنا على أن ذكر الخيلاء أو البطر في كلام الشارع لأجل التأكيد دون التقييد - كما سأبينه بمشيئة الله تعالى - ، أما أقوال الشراح الذين حملوا ذكر الخيلاء على التقييد فتعارضها أقوال غيرهم ممن خالفوهم في ذلك ، كما أن بعض أولئك المرخصين قد ناقضوا أنفسهم ، بأنفسهم كما سأبينه - إن شاء الله - ، مع تحكيم الحجة والدليل في أقوال الفريقين ، وإلى القاريء الكريم أقوال الفريق الأول الذي ترخص في المسألة :
1- النووي في شرحه على صحيح مسلم قال : "وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء ، وهكذا نص الشافعي على الفرق كما ذكرنا ، وأجمع العلماء على جواز الإسبال للنساء، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإذن لهن في إرخاء ذيولهن ذراعا والله أعلم ، وأما القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف القميص والأزار فنصف الساقين كما في حديث ابن عمر المذكور ، وفي حديث أبي سعيد "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل من ذلك فهو في النار" فالمستحب نصف الساقين ، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين فهو ممنوع ، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم ، وإلا فمنع تنزيه ، وأما الأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار ، فالمراد بها ما كان للخيلاء ، لأنه مطلق فوجب حمله على المقيد والله أعلم [النووي شرح صحيح مسلم ج14 ص62-63 ط المطبعة المصرية ومكتبتها].
2- الآبي في شرحه على صحيح مسلم ، قال : "ودل الحديث على أن النهي إنما يتعلق خبره لهذه العلة ، فمن استعجل فجر ثوبه خلفه أو كان إزاره لا يثبت على كتفه فلا حرج - إلى أن قال - لأنه مطلق فيرد إلى المقيد"[الآبي إكمال المعلم شرح صحيح مسلم المجلد الخامس ص385-385 ط دار الكتب العلمية بيروت].
3- السنوسي ذكر نحو هذا الكلام ، ثم قال: "وإن لم يكن خيلاء فهو مكروه"[السنوسي مكمل إكمال الإكمال المجلد ص385 ط دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان].
4- العيني ، قال في شرحه على صحيح البخاري : "وهذا مطلق يجب حمله على المقيد وهو ما كان للخيلاء [العيني عمدة القاريء شرح صحيح البخاري ج21 ص297 ط دار إحياء التراث العربي] .
5- القسطلاني في شرحه على البخاري ، قال : "وهذا الإطلاق محمول على ما ورد من قيد الخيلاء ، وقد نص الشافعي - رحمه الله - على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، فإن لم يكن للخيلاء كره للتنزيه" [إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ج21 ص418 ط دار الكتب العربية ببيروت -لبنان] .
6- العلامة السهرنفوري في شرحه لسنن أبي داود ، قال : "قال العلماء المستحب في الإزار والثوب إلى نصف الساقين ، والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين ، فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع ، فإن كان للخيلاء فهو ممنوع منع تحريم ، وإلا فمنع تنزيه" [خليل أحمد السهرنفوري بذل المجهود في حل أبي داود ج16 ص411 ط دار الكتب العلمية]
7- الشوكاني ، قال في نيل الأوطار : "وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله  - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء ، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء وقد يكون لغيره ، فلا بد من حمل قوله "فإنها من المخيلة" في حديث جابر بن سليم على أنه خرج مخرج الغالب ، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهاً إلى من فعل ذلك اختيالاً ، والقول بأن كل إسبال من المخيلة أخذا بظاهر حديث جابر ترده الضرورة ، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله ، ويرده ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر لما عرفت ، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين ، وقد جمع بعض المتأخرين رسالة طويلة جزم فيها بتحريم الإسبال مطلقاً ، وأعظم ما تمسك به حديث جابر ، وأما حديث أبي أمامة فغاية ما فيه التصريح بأن الله لا يحب المسبل ، وحديث الباب مقيد بالخيلاء ، وحمل المطلق على المقيد واجب، وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء ، فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة " [نيل الأوطار ج2 ص113 ط إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية] .وسيأتي إن شاء الله ذكر الأحاديث التي أشار إليها وبيان دلالتها على حرمة  الإسبال مطلقاً .
وبعد هذا الذي نقلته من نصوص المترخصين أضع بين يدي القاريء الكريم  بعض نصوص الفريق الآخر ، وهم المتشددون من غير مراعاة لقيد الخيلاء :
1- ابن العربي ، قال في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي : "لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أتكبر فيه ، لأن النهي قد تناوله لفظاً وتناول علته ، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكماً ، فيقال إني لست ممن يمتثله، لأن تلك العلة ليست فيّ ، فإنه مخالفة للشريعة ودعوى لا تسلم له، بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره ، فكذبه معلوم في ذلك قطعاً" [ابن العربي عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي ج7 ص238 ط دار العلم للجميع].
2- الحافظ ابن حجر العسقلاني ، قال في فتح الباري - بعد نقله كلام ابن العربي ملخصاً - "وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب ، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء ، ويؤيده ما أخرجه أحمد ابن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه " وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة " ، وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة"بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة : إزار ورداء قد أسبل ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بناصية ثوبه ويتواضع لله ويقول : عبدك ابن عبدك وأمتك حتى سمعها عمرو فقال : يا رسول الله إني أحمش الساقين ، فقال: يا عمرو إن الله أحسن كل شيء خلقه ، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه لكن قال في روايته : عن عمرو عن فلان ، وأخرجه الطبراني أيضاً فقال : عن عمرو بن زرارة ، وفيه ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع أصابع تحت ركبة عمرو فقال : "يا عمرو هذا موضع الإزار" ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع فقال : "يا عمرو هذا موضع الإزار .. الحديث" ، ورجاله ثقات وظاهره أن عمرو المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء وقد منعه من ذلك لكونه مظنة ، وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال : أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قد أسبل إزاره فقال : "إرفع إزارك" ، فقال : إني أحنف تصطك ركبتاي، قال : "إرفع إزارك فكل خلق الله حسن" ، وأخرجه مسدد وأبو بكر بن أبي شبيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم ، وفي آخره "... ذلك أقبح مما بساقك" ، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك فقال : إني أحمش الساقين، فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب ، وهو أن يكون إلى نصف الساق، ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين والتعليل يرشد إليه ، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة والله أعلم ، وأخرج النسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ برداء سفيان بن سهيل وهو يقول : يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين"[فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج10 ص264 ط المطبعة السلفية] .
3-  قال الحافظ أيضاً - بعد ذكره حديث ترخيص رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المؤمنين شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا - ، ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء ، - وبعد أن ذكر كلام النووي في ذلك - قال : ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى ، بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقاً سواء كان عن مخيلة أم لا ، فسألت عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة ، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء ، ومراده منع الإسبال لتقريره - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة على فهمها ، إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص ، لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الإسبال، وتبيينه القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن ، كما بين ذلك في حق الرجال ، والحاصل أن للرجال حالين حال استحباب  وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق ، وحال جواز وهو إلى الكعبين ، وكذلك للنساء حالان ، حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر ذراع - إلى أن قال : ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب ، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه [فتح الباري ج10 ص209] .
4- نقل الحافظ جانباً من كلام النووي الذي سبق نقله عنه ، وما تضمنه من نسبة القول بالتفريق بين أن يكون الجر للخيلاء أو لغير الخيلاء إلى الشافعي ، وقال عقبة: والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي ، في مختصره عن الشافعي ، قال : لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ، ولغيرها خفيف ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ، ثم أتبعه الحافظ بقوله : وقوله (خفيف) ليس صريحاً في نفي التحريم ، بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء ، فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال ، فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم، ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر ، وإن كان الثوب زائداً على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم ، وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء ، وهو أمكن فيه من الأول ، وقد صحح الحاكم في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن الرجل يلبس لبسة المرأة ، وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به ، وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل والنسائي من طريق أشعث بن أبي الشعثاء - اسم أبيه سليم - المحاربي عن عمته - واسمها رُهم بضم الراء وسكون الهاء ، وهي بنت الأسود بن حنظلة  - عن عمها - واسمه عبيد بن خالد - قال : كنت أمشي وعلي برد أجره ، فقال لي رجل : "ارفع ثوبك فإنه أنقى وأبقى" فنظرت فإذا هو النبي  - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إنما هي بردة ملحاء فقال : "أما لك فيّ أسوة" قال : فنظرت فإذا إزاره أنصاف ساقيه ، وسنده قبلها جيد ، وقوله ملحاء - بفتح الميم وبمهملة قبلها سكون ممدود - أي فيها خطوط سود وبيض ، وفي قصة قتل عمر أنه قال للشاب الذي دخل عليه : ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك ، وقد تقدم في المناقب ، ويتجه المنع أيضاً في الإسبال من جهة أخرى وهو كونه مظنة الخيلاء [فتح الباري بشرح صحيح البخاري ص263 - 264] .
5-  أفتى المحقق الخليلي - رحمة الله عليه - بوجوب رفع الثوب في أثناء الصلاة على من ارتخى ثوبه فيها بدون قصد ، وسيأتي نص كلامه إن شاء الله .
والخلاصة أن الذين فرقوا بين حالتي الخيلاء وعدمها استندوا إلى دليلين :
أ - ذكر الخيلاء في كثير من روايات النهي والوعيد ، وجعلوا ذلك من باب التقييد ، فحملوا الروايات المطلقة عليه ، تمسكاً بقاعدة حمل المطلق على المقيد .
ب- عذره - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - عندما  قال له: إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده ، فرد عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله "إنك لست ممن يفعله خيلاء " .
والذين لم يفرقوا بين هذه الحالة وتلك استدلوا بما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إنكاره على كل مسبل ، من غير بحث عن قصده ، حتى أنه لم يقبل عذر عمرو بن زرارة عندما اعتذر إليه بأن إسباله لتغطية حمش ساقيه، بل قال له "يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه ، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" ، ومثله قوله للذي اعتذر إليه بأنه أحنف تصطك ركبتاه "ارفع إزارك فكل خلق الله حسن"  ، وفي رواية "ذاك أقبح مما بساقك" ، مع ما يستلزمه الإسبال من التشبه بالنساء لأنه من خصائصهن ، ومن التشبه بأهل الخيلاء ، وكونه مظنة لها ، وبجانب هذا كله فإن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - أقر أم سلمة على ما فهمت من عموم تحريمه ، وإنما رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الإسبال ذراعاً لضرورة تغطية القدمين ، ولا يعقل أن يكون هذا الترخيص مع الخيلاء ، فتفريقه بين الرجال والنساء في الحكم دليل على حرمة الإسبال مطلقاً على الرجال .
ومن استقرأ أدلة القولين ، وأمعن النظر في ما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المسألة لم يشك أن مذهب المتشددين هو أقوم قيلا وأصح دليلا ، فقد تضافرت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإنكار على كل مسبل من غير أن يبحث عن نيته في ذلك ، بل المفهوم من كلامه - عليه الصلاة والسلام - أن نفس الإسبال من الخيلاء المذموم ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : مررت على رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - وفي إزاري استرخاء ، فقال : "يا عبد الله ارفع إزارك" فرفعته، ثم قال (زد) فزدته ، فما زلت أتحراها بعد ، قال بعض القوم : إلى أين ؟ قال : إلى أنصاف الساقين .
وروى الترمذي عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : أخذ رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - بعضلة ساقي - أو ساقه - فقال : "هذا موضع الإزار ، فإن أبيت فأسفل ، فإن أبيت فأسفل ، فلا حق للإزار في الكعبين" ، وأخرجه عنه النسائي بلفظ "الإزار إلى أنصاف الساقين - العضلة - فإن أبيت فأسفل فإن أبيت فمن وراء الساق ،لا حق للكعبين في الإزار" .
وروى أبو داود عن قيس بن بشر التغلبي قال : أخبرني أبي - وكان جليساً لأبي الدرداء - قال : كان بدمشق رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له ابن الحنظلية وكان رجلاً متوحداً قلما يجالس الناس إنما هو صلاة ، فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله - وذكر عنه حديثاً طويلا جاء فيه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره" ، فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذ شفرة فقطع به جمته إلى أذنيه ، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه .
فهل ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما كان ينكر على أصحابه الإسبال كان يرى فيهم من البطر والخيلاء ما الناس اليوم منه براء ؟ ، كلا والله، فإن أولئك كانوا أبر قلوبا وأرسخ إيمانا وأعدل سيرة وأنقى سريرة وأزكى عملا، وإنما هو تشريع عام بدأ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه وأرفعهم منزلة عند الله ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذي اتبعوهم بإحسان - رضي الله عنهم ورضوا عنه -، أو يظن ظان أن أولئك أولى بتهمة الخيلاء والبطر من المسبلين في هذا العصر؟ ومن بين أولئك الذي حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإسبال حذيفة، الذي اختاره - عليه الصلاة والسلام - لأن يكون مستودع سره ومؤتمنه فيما أخفاه عن غيره . إني لأربأ بأي عاقل أن يظن ذلك .
هذا وقد صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكون نفس الإسبال من ضروب الخيلاء ، ولذلك حذر منه ، وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم - وصححاه - والطبراني عن جابر بن سليم - في حديث طويل اشتمل على نصائح جمة وجهها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء فيه : "وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار،  فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة" ، وهو نص فيما قلته من أن الإسبال نفسه من الخيلاء ، وأن ما ورد من ذكره الخيلاء مقروناً به ليس من باب التقييد الذي يحمل عليه مطلق النهي في الروايات الأخرى ، وإنما هو من باب تأكيد الذم وتغليظ الزجر لفاعله ، ولذلك نظائر كثيرة في القرآن الكريم ، من ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة : 61] وقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران : 21] . وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [آل عمران : 112]. إذ لا يتصور أن يكون قتل الأنبياء حقاً في أي حال ، حتى يكون قوله بغير حق في هذه الآيات تقييد الحكمة لاستثناء الحالات التي يكون فيها قتلهم حقاً منه ، ومثله قوله تعالى : {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ } [الأنعام : 140].
إذ لا يتصور أن يكون قوله (سفها بغير علم) تقييداً للوعيد بالخسران للذين قتلوا أولادهم ، فتخرج منه طائفة قتلت أولادها من غير سفه ولا جهل ، وكذلك لا يتصور أن يكون قوله (افتراء على الله) تقييداً لوعيد الذين حرموا ما أحل الله لهم من رزقه ، ومن هذا الباب قوله عز وجل : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف : 33] ، فإنه من غير المعقول أن يكون قوله (بغير الحق) تقييداً لتحريم الإثم والبغي ، إذ لا يتصور أن يكون حقاً في أي حال، وإنما تخرج هذه الأوصاف كلها مخرج تغليظ الزجر وتأكيد الذم على ما اقترنت به، ويتعين أن يحمل عليه ذكر الخيلاء في أحاديث الإسبال لأمرين :
أولهما : نص حديث جابر بن سليم المتقدم على أن الإسبال من المخيلة .
ثانيهما : زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل من رآه مسبلاً من أصحابه وهم أنزه من غيرهم عن الخيلاء ، ويؤكد ذلك حرمة الخيلاء على الإطلاق ، سواء في حال الإسبال أو عدمه، فلو لم يكن الإسبال نفسه محرماً لكان الأجدر أن يكون الزجر والوعيد على الخيلاء من غير ذكر الإسبال .
 هذا ولو سلمنا أن الإسبال قد ينفك عن الخيلاء ويكون المسبل غير مختال ، لما سلمنا دلالة ما ورد من أحاديث النهي عن الإسبال مقروناً بالخيلاء على عدم شمول حكمها غير المختال ، لأن هذه الدلالة هي من باب مفهوم المخالفة، ومن شرط الاستدلال بالمفهوم أن لا يكون منطوقه وارداً مورد الأغلب المعتاد، لأن ما كان كذلك ليس له مفهوم يعتد به، نص على ذلك الأصوليون ، وعول عليه الفقهاء ، قال الإمام نور الدين السالمي - رحمه الله -[طلعة الشمس لنور الدين السالمي]:
وشرطه أن لا يكون مقتضى    يمنع من تخصص الحكم الرضى
وذاك مثل عادة للعرب         في نحو أن يجري مجرى الأغلب
ولذلك لم يعتبر المفهوم في قوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء : 23] ، فاتفق على حرمة الربائب على أزواج أمهاتهن ولو لم يكن في حجرهم ، لأن ذكر الحجور في الآية وارد مورد الأغلب المعتاد ، وما يذكر من خلاف في ذلك في الصدر الأول كاد يكون منسياً لشذوذه ، والاتفاق من بعد على العمل بخلافه، ومن هذا الباب قوله تعالى في سورة الأنعام { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام : 151] . وقوله في سورة الإسراء {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء : 31] . إذ لا قائل بتقييد النهي عن قتل الأولاد بحالتي الإملاق أو خشيته ، وبهذا يسقط كل ما تعلق به من قال إن أحاديث الباب المطلقة محمولة على قيد الخيلاء .
وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله تعالى عنه - "إنك لست ممن يصنعه خيلاء" ، فلا حجة فيه لمن أدعى عدم حرمة الإسبال على من لم يتلبس بالخيلاء ، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - ما كان يتعمد الإسبال فلا ينطبق حكمه على من تعمده ، وإنما كان استرخاء إزاره - رضي الله تعالى عنه - لنحافة جسمه ، فكان لا يستمسك إلا أن يتعاهده ، وما كان - رضوان الله عليه - يدعه مسترخياً بل كان يرفعه كلما استرخى ، بدليل ما أخرجه أبو داود في سننه أنه قال: "إني لأتعاهد ذلك منه" ، وقد دل على هذا ما ذكر من أوصافه - رضوان الله عليه - ، فقد روى ابن سعد من طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان أبو بكر أحنى لا يستمسك إزاره، يسترخي عن حقويه ، ومن طريق قيس ابن أبي حازم دخلت على أبي بكر وكان رجلاً نحيفاً .
قال العيني : وسبب استرخائه كون أبي بكر رجلاً أحنى نحيفاً لا يستمسك ، فإزاره يسترخي عن حقويه ، قال الكرماني : يصح أحنى بالحاء المهملة والجيم، يقال رجل أحنى الظهر بالحاء المهملة - ناقصاً - أي في ظهره احديداب - ، ورجل أجنأ - بالجيم مهموزاً - أي أحدب الظهر ، ثم إن الاسترخاء يحتمل أن يكون من طرف القدام نظراً إلى الاحديداب ، وأن يكون من اليمين أو الشمال نظراً إلى النحافة ، إذ الغالب أن النحيف لا يستمسك إزاره على السواء [العيني عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج21 ص295 ط دار إحياء التراث العربي]. وقال ابن القيم في التهذيب وكان رجلاً نحيفاً قليل اللحم ، وكان لا يستمسك إزاره إذا شده على حقويه ، فإذا سقط إزاره جره ، فرخص له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وعذره [ابن قيم الجوزية التهذيب مع مختصر سنن أبي داود للمنذري ومعالم السنن لأبي سليمان الحضرمي المجلد السادس ص59].
وبهذا يتضح مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله "إنك لست ممن يفعله خيلاء" ، فهو بمعنى لست ممن يفعله قصداً ، وغاية ما يدل عليه أنه لا يأثم من استرخى إزاره بغير قصد ، وإنما عليه أن يرفعه كلما تفطن له .
قال الحافظ ابن حجر : "لا حرج على من انجر إزاره من غير قصد مطلقاً" ، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يكره جر الإزار على كل حال، فقال ابن بطال : هو من تشديداته ، وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم ، قلت : بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك ، سواء كان عن مخيلة أم لا، وهو المطابق لروايته المذكورة ، ولا يظن بابن عمر أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئاً ، وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتدارك ، وهذا متفق عليه ، وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو التنزيه [فتح الباري الجزء العاشر ص255 ط المطبعة السلفية].
ومثل هذا في الحكم من أذهله أمر فجر ثوبه بدون قصد ، وقد وقع ذلك لرسول الله  - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي بكر عند البخاري قال : خسفت الشمس ونحن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - أذهله ما وقع واستعجل الذهاب إلى المسجد ، فلم يشتغل بغير ما هو مقبل عليه ، ولذلك قال الحافظ : لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء ، حتى أجاز لبس القميص الذي ينجر على الأرض لطوله [المرجع السابق] .
هذا وإنك لتجد بعض أولئك الذين أباحوا الإسبال لمن لم يقصد به الخيلاء ناقضوا أنفسهم بأنفسهم فيما قالوه ، فهذا القسطلاني يقول في « إرشاد الساري » ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري - من غير أن يعزوه إليه - وما هو إلا دليل أنه قد ارتضاه وأقره إذ عزاه إلى نفسه ، ونص كلامه (وقد جرت العادة بإرخاء العذبات ، فما زاد على العادة في ذلك فهو من الإسبال، وكذا تطويل الإكمام إذا مست الأرض وقد حدث للناس اصطلاح بتطويلها للتمييز ، ومهما كان ذلك للخيلاء أو أوصل إلى جر الذيل الممنوع فحرام) [إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري ج8 ص420 ط دار الكتاب العربي بيروت -لبنان] ، فإن قوله (فما زاد على العادة في ذلك فهو من الإسبال ) يوحي إلى منع ما خرج عن المعتاد في إطالة العذبات والأكمام لاعطائه حكم الإسبال المحرم ، ثم صرح بما أوحى إليه في قوله (ومهما كان ذلك للخيلاء  أو أوصل إلى جر الذيل الممنوع فحرام) ، حيث عطف على ما كان للخيلاء ما أوصل إلى جر الذيل الممنوع بأو المفيدة للتقسيم والتنويع ، وجعل كلا القسمين حراماً ، وهو بين التناقض مع ما نقلناه عنه من قبل أن ما لم يكن للخيلاء كره للتنزيه . ومثل هذا صنع الشوكاني ، فقد قال قبل ما نقلته عنه ( ويدل على عدم التقييد بالخيلاء ما أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر بن سليم ) وذكر حديثه السالف الذكر ، وحديث أبي أمامة عند الطبراني في قصة عمرو بن زراره- ثم قال : (والحديث رجاله ثقات ، وظاهره أن عمرو لم يقصد الخيلاء) [الشوكاني نيل الأوطار ج2 ص 112-113]. ولا ريب في مناقضة هذا الكلام لما سبق نقله عنه ومنه قوله : (فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة) ، وقد فاته أن غاية ما في تلك الأحاديث من ذكر الخيلاء تأكيد الذم وتغليظ الزجر كما سبق ، وكون عمرو ابن زرارة ما قصد الخيلاء ليس ظاهراً فحسب وإنما هو صريح في اعتذاره إلى رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - عن الإسبال بأنه أحمش الساقين ، ولم يقبل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتذاره هذا ، كما لم يقبل اعتذار من اعتذر إليه بأنه أحنف تصطك ركبتاه ، ولئن كان رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل عذر هذين ، فأحرى أن لا يقبل عذر من لم يكن به ما بهما .
هذا ويترخص في الإسبال للضرورة ، كمن يؤذيه البرد أو البعوض في قدميه ولم يجد ما يرفع به الأذى إلا أن يسبل عليهما ثوبه ، قال الحافظ في الفتح (ويستثنى من إسبال الإزار مطلقاً ما أسبله لضرورة ، كمن يكون بكعبيه جرح مثلاً يؤذيه الذباب - مثلاً - إن لم يستره بإزاره ، حيث لا يجد غيره ، واستدل على ذلك بإذنه  - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحريري من أجل الحكة ، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهى عنه من أجل الضرورة ، كما يجوز كشف العورة للتداوي)[فتح الباري ج10 ص297 ط المطبعة السلفية ومكتبتها]، وقال القطب في شرح النيل (ويجوز جره خوف البرد أو ناموس أو نحوه من المضار)[شرح النيل الجزء الثاني ص53 ط دار الفتح] .ومثله قول الإمام السالمي في معارجه (وكذلك إذا لم يسبله خيلاء ، وإنما أسبله لعذر كخوف البرد والبعوض ، ففي كلام بعضهم أنه لا بأس به) [معارج الآمال على مدرج الكمال ج6 وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان] .
 صلاة المسبل والمؤتم به:
الصلاة هي أم العبادات ، ورأس الأعمال الصالحات ، فهي وقفة العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، الذي عنت له الوجوه وخشعت له القلوب ، وخضعت لعزته الرقاب ، وسجدت لجلاله الجباه ، وولهت من هيبته النفوس {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء : 44] ، فلا غرو إذا كان من شرائطها الطهارة المطلقة ظاهراً وباطناً ، حساً ومعنى ، لأنها عبادة يشترك فيها الجسم والروح، والعقل والقلب ، والفكر والوجدان، فهي تنافي التلبس بمعاصي الله ظاهراً أو باطناً ، كما تنافي التلبس بالنجاسات أو الأحداث ، وكيف تكون الصلاة - وهي أم العبادات - صحيحة مع اقترانها بمعصية العبد المصلي ، والله تعالى يقول : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة : 5] ، وأين إخلاص الدين من هذا الواقف بين يدي الله في صلاته ، وهو مكابر لأمره، صاد عن طاعته آت في صلاته بما حذره الله منه من الأعمال ، ومن ثمَّ نجد الفقهاء المحققين يفتون ببطلان من صلى من الرجال وهو لابس ثوب حرير أو متحل بالذهب المحرم على غير الإناث ، وما أحراه بذلك ، فإن صلاته بهما إن دلت على شيء فلا تدل إلا على عدم مبالاته بعبادته وعدم اكتراثه بحرمتها .
وإذا اتضح لك حكم من صلى بالذهب أو الحرير المحرمين ، لم يشكل عليك ما أفتيت به من بطلان صلاة من تلبس فيها بالإسبال ، الذي هو رمز الكبر والبطر والخيلاء ، وإن كنت لم تقتنع بذلك ، فهلم إلى ما أنقله لك من نصوص السنة وأقوال السلف، لعلك تجد فيها طمأنينة قلبك وسكون نفسك .
قال أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي جعفر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره إذ قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اذهب فتوضأ" ، فذهب فتوضأ ، ثم جاء ، فقال : "اذهب فتوضأ" ، فقال له رجل : يا رسول الله مالك أمرته أن يتوضأ ثم سَكَتَّ عنه  قال : "إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره ، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل" ، وهو وإن قال فيه الحافظ المنذري : "في إسناده أبو جعفر رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه [المنذري مختصر السنن المجلد الأول ص324 والمجلد الخامس ص51 توزيع دار الباز] ، فإن ذلك لا يقدح في الاستدلال به ، ولذلك عول عليه المحققون كابن القيم في التهذيب [ابن القيم التهذيب بذيل مختصر ومعالم السنن المجلد الخامس ص50 توزيع دار الباز] ، وابن العربي في العارضة [عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي ج7 ص238 ط دار العلم للجميع] ، والإمام النووي في رياض الصالحين ، حتى أنه قال فيه :  رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم [رياض الصالحين من طلام سيد المرسلين ص275 ط نشر وكالة المطبوعات الكويت دار القم لبنان] .
ويعتضد بما رواه الطبراني - بإسناد حسن - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه رأى أعرابياً يصلي قد أسبل فقال "المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام" ، قال الحافظ ابن حجر : "ومثل هذا لا يقال بالرأي" [فتح الباري ج10 ص207 ط السلفية ومكتبتها] ، يعني أنه لا يبعد من أن يكون قد استند في قوله هذا إلى أثر عن الشارع عليه - أفضل الصلاة والسلام - ، فهو مرفوع حكماً ، وإن كان موقوفاً لفظاً .
ويؤيد ذلك أن أبا داود قد رفعه في سننه من طريقه ، فقد قال : حدثنا زيد بن أخزم حدثنا أبو داود عن أبي عوانة عن عاصم عن أبي عثمان عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام" ، قال أبو داود : روى هذا جماعة عن عاصم موقوفاً على ابن مسعود ، منهم حماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، وأبو الأحوص ، وأبو معاوية [سنن أبي داود مع شرح سهر انفوري بن المجهود ج ص296-297 ط دار الكتب العلمية -بيروت لبنان] .
قال العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر : "وهو في مسند الطيالسي رقم(153) عن أبي عوانة وثابت عن عاصم ، وهذا إسناد صحيح ولا يضره وقف من وقفه ، فرفعه زيادة ثقة وهي مقبولة [المحلى لابن حزم ج4 ص100 الشيخ محمد أحمد شاكر رقم3 ط مكتبة الجمهورية العربية] .
وليس في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم  - اكتفى بإعادة المسبل وضوءه دون صلاته ، إذ الصلاة أحرى أن تعاد ، ولكن أمره بإعادة الوضوء تغليظاً ، لأنه أيضاً عبادة منافية للتلبس بالمعاصي ، ولذلك قال طائفة من أصحابنا بأن المعصية تهدم الوضوء ، قال العلامة ابن العربي بعد ما ذكر الحديث : «يعني ويعيد الصلاة» - ثم قال - « ومعناه أن الصلاة حال تواضع ، وإسبال الإزار فعل متكبر متعارضان ، وأمره له بإعادة الوضوء أدب له وتأكيد ، عليه ولأن المصلي يناجي ربه ، والله لا ينظر إلى من جر إزاره ولا يكلمه فكذلك لم يقبل صلاته» [عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي الجزء الثاني ص328 دار العلم للجميع] .
وحكى ابن حزم في المحلى عن مجاهد أنه قال : «كان يقال من مس إزاره كعبه لم يقبل الله له صلاة »، قال ابن حزم "فهذا مجاهد يحكي ذلك عمن قبله وليسوا إلا الصحابة - رضي الله عنهم - ، لأنه ليس من صغار التابعين بل من أوسطهم"[ابن حزم المحلى الجزء الرابع ص100 ط مكتبة الجمهورية العربية] ، وحكى أيضاً عن ذر بن عبد الله المزهبي قال : « كان يقال : من جر ثوبه لم تقبل له صلاة »، وأتبع ابن حزم ذلك بقوله : "ولا نعلم لمن ذكرنا مخالفاً من الصحابة - رضي الله عنهم - " وعلل ابن حزم هذا الحكم بقوله : "فمن فعل في صلاته ما حرم عليه فعله فلم يصل كما أمر ، ومن لم يصل كما أمر فلا صلاة له" [ابن حزم المحلى ج4 ص101] ، وقال قبل ذلك : "ولا تجزي الصلاة ممن جر ثوبه خيلاء من الرجال ، وأما المرأة فلها أن تسبل ذيل ما تلبس ذراعاً لا أكثر ، فإن زادت على ذلك عالمة بالنهي بطلت صلاتها ، وحق كل ثوب يلبسه الرجل أن يكون إلى الكعبين ، لا أسفل البتة ، فإن أسبله فزعاً أو نسياناً فلا شيء عليه [ابن حزم المحلى ج4 ص99] .
وقد صرح كثير من علمائنا ببطلان صلاة المسبل ، وإليك بعض نصوصهم في ذلك:
1- قال الإمام أبو محمد بن بركة : "ومن أسبل إزاره في الصلاة خيلاء فلا تجوز صلاته لما روى عبد الله بن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أسبل إزاره في الصلاة فليس من الله في حل ولا حرام" ، وقوله -  صلى الله عليه وسلم - "فضل الإزار في النار" ، ومن طريق أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "ما تحت الكعب من الإزار في النار" ، وفي نهاية رواية ابن مسعود رأى رجلين يصليان أحدهما ينقر سجوده والآخر يرخي إزاره في الأرض فقال : أحدهما لا ينظر الله إليه ، والآخر لا يغفر الله له" ، وفي الرواية أن الذي لا ينظر الله إليه صاحب الإزار وصلاته مقرونة بالوعيد غير جائزة"[ابن بركة كتاب الجامع الجزء الأول ص485 ط وزارة التراث القومي والثقافة -سلطنة عمان]. 
وقد أورد كلامه هذا كل من صاحب بيان الشرع وصاحب منهج الطالبين والإمام السالمي - رحمه الله تعالى - في معارجه وأقروه .
2- قال الشيخ عامر - رحمه الله تعالى - في الإيضاح : "وكذلك من يجر إزاره خيلاء في الصلاة فلا تجوز صلاته - وذكر بعض ما روى في ذلك - ثم قال: ولا تجوز الصلاة بهذا لما فيه من الوعيد" [الإيضاح الجزء الأول ص425 ط دار الفتح] .
3- سئل المحقق الخليلي - رحمة الله عليه - عمن ارتخى إزاره في الصلاة حتى صارت طرته إلى الكعب من الرجل أو أسفل من الكعب ، أيؤمر وجوباً أن يرفعه وهو فيها ؟ وهل هذا من مصالح الصلاة أم لا ؟ فأجاب : "وجوبا،  وإن أبى فصلاته فاسدة لأنه معصية ، للرواية النبوية الصحيحة بالوعيد الشديد ولا صلاة لعاص" ، قيل له وإن كان لا يشغله أن يتركه مرتخياً بل يجد راحة في نفسه ونشاطاً في بدنه في تركه كذلك ، إلا أنه كاره بقاءه مخافة دخوله في النهي عن تذييل الإزار ، فيحتمل به ما لا يحمله فوق طاقته من الوزر ، فعلى هذا ما الأولى له لزوماً ، وإن تركه كيف يكون عليه، أم لا شيء عليه ؟ فأحال على ما سبق من جوابه" [تمهيد قواعد الإيمان ، ج5 ، ص43 ، ط وزارة التراث القومي والثقافة- سلطنة عمان].
4- قال قطب الأئمة - رحمة الله عليه - : "وأفسد بعضهم الصلاة بجره فيها ولو بغير خيلاء" [شرح النيل ، ج2 ، ص53 ، ط دار الفتح] .
وقد علمت مما مضى أن التحقيق كون كل إسبال خيلاء ، وبهذا يندرئ عنك أي شك في بطلان صلاة المسبل ، إلا من كان معذوراً بنحو ما تقدم ذكره ، وناهيك بقوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله لا يقبل صلاة المسبل" نصاً صريحاً على ذلك ، ومثله قوله "ليس من الله جل ذكره في حل ولا حرام" ، فإنه بمعنى ليس من الله في شيء ، وفي هذا من الزجر الوعيد ما ليس بعده ، وقال النووي : معناه قد بريء من الله وفارق دينه ، وقال ابن رسلان : مراده لا يؤمن بحلال ولا حرام، وقيل : لا يجعله في حل من ذنوبه ولا يمنعه ويحفظه من سوء الأعمال ، وقيل : لا يحل الله له الجنة ولا يحرم عليه النار ، وقيل : ليس هو في فعل حلال، ولا له احترام عند الله تعالى [انظر السهر نفوري بذل المجهود في أبي داود التعليق عليه ، ج2 ص267 ط دار الكتب العلمية ، بيروت]  .
أما المؤتم بالمسبل فيسري البطلان إلى صلاته من صلاة إمامه ، لارتباط صلاته بصلاته ، ولا عبرة بقول من قال : إن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام ، للأدلة الدالة على الارتباط وهي :
أ - أن المأموم ليس له أن يتقدم إمامه في شيء من أفعال الصلاة أو أقوالها ، فلا يحرم قبله ، ولا يقرأ قبله ، ولا يأتي بالركوع أو السجود أو القيام أو القعود قبله ، وإن فعل ذلك متعمداً بطلت صلاته ، فلو لم تكن صلاته مرتبطة بصلاته لما قيد به فيما يأتي به من أعمال الصلاة وأقوالها .
ب- أن الإمام يحمل عن المأمومين قراءة ما عدا الفاتحة إجماعاً ، بل والفاتحة في رأي بعض المذاهب ، كما يحمل عنه قوله سمع الله لمن حمده ، ولو لم تكن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه لما حمل عنه شيئاً .
ج- أن فرض المسافر ركعتان بلا خلاف ، وإن صلى خلف المقيم وجب عليه أن يتم الرباعية إجماعاً ، ولم يكن ليجب عليه ذلك لولا ارتباط صلاته بصلاته .
د- أنه مما اتفق على ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قائماً فصلوا قياما وإذا صلى قاعداً فصلوا قعودا" [رواه الربيع وأحمد والشيخان من طريق أنس رضي الله عنهما وقد روى عن طريق أخرى]، فلولا ارتباط صلاة المأموم بصلاة إمامه لما سقط عنه ركن من أركانها وهو القيام.
فإن قيل : أولستم تجيزون الصلاة خلف مرتكب الكبيرة ؟ وقد روى الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "الصلاة جائزة خلف كل بر وفاجر"، وفي رواية "صلوا خلف كل بر وفاجر"، فما بالكم تناقضون ذلك بمنعكم الصلاة خلف المسبل ؟ وما الفارق بين المسبل وحالق اللحية الذي أبحتم الصلاة خلفه وكل منهما عاص لربه ؟
فالجواب : أن المسبل مدخل في صلاته ما يفسدها بإسباله ، وقد قيد الربيع - رحمه الله - إطلاق الحديث بقوله "ما لم يدخل فيها ما يفسدها" [مسند الإمام الربيع بن حبيب مع شرح الإمام نور الدين السالمي ج1 ، ص311 ، ط2] .
ولا ريب أنه استند في هذا التقييد إلى ما ذكرنا من الأدلة وأمثالها ، والفارق بين المسبل وغيره من العصاة كحالق اللحية بيّن ، لأن المسبل متلبس بالمعصية في أثناء الصلاة ، كلابس الذهب والحرير من الرجال ، فكما لا تصح صلاة من لبسهما ولا تجوز إمامته فكذلك المسبل ، وتوبة من تلبس بشيء من ذلك موقوفة على التخلي عنه ، وحالق اللحية لم يباشر معصيته في أثناء الصلاة بل قبلها ، ولو شاء التوبة في أي وقت لما لزمه نزع شيء هو فيه ، وإنما تجب عليه النية الصادقة أن لا يعود إلى حلقها ، وهو كاف في التفريق بين حكميهما .
هذا ما أردت بيانه نصرة للحق وإحياء للسنة ومقاومة للبدعة ، والله ولي التوفيق هو حسبي ونعم الوكيل ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .