القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
المكتبة » حكم قراءة السورة في قراءة السر
مختـارات المكتبة
الدين الحياة
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
الوطء المحرم وأثره في نشر حرمة النكاح
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
زكاة الأنعام
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
الأكثر قراءة
90629 مشاهدةالإيلاء
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
 
 
52812 مشاهدةالدين الحياة
الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
حكم قراءة السورة في قراءة السر الشيخ \ أحمد بن حمد الخليلي
القسم : العبادات عدد المشاهدات : 10938 مشاهدة

حكم قراءة السورة في قراءة السر

حكم قراءة السورة في قراءة السر

                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:


    فقد أفتى أحد المشائخ من أصحابنا بوجوب قراءة شيء من القرآن مع الفاتحة الشريفة في صلاتي الظهر والعصر، وشدد في ذلك على الناس، حتى قال بأنهم كانوا معذورين قبل قيام الحجة عليهم، أما وقد قامت عليهم الحجة بهذه الفتوى المستندة إلى ما روي في الصحاح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يسوغ لأحد أن يخالف ذلك، ومن ترك القراءة وهو إمام أو منفرد بحيث اقتصر على الفاتحة وحدها فلا صلاة له؛ كما قال تعالى في الربا:(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، وبما أن أصحابنا ألفوا ترك قراءة ماعدا الفاتحة الشريفة في صلوات السر حيرتهم هذه الفتوى، حتى أدى بهم الأمر إلى الاضطراب، لذلك رجعوا إليكم راغبين في الإجابة الشافية فيها بما يشفي الصدور والله يوفقكم للخير.

    الجواب/ بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على خير خلقه محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وسلك سبيله، اعلم أن أصحابنا رحمهم الله أطبقت كلمتهم سلفا وخلفا على أن المشروع في كل ركعة يُسرُّ بالقراءة فيها الاقتصار على أم القرآن وحدها، وهم في رأيهم هذا معولون على ثلاثة أمور:
    أولها:أن الأصل فيما لا يجهر بالقراءة فيه الاقتصار على الفاتحة الشريفة وحدها، كما يكون ذلك في الصلاة الواحدة، إذ في العشاءين يقتصر –في المشهور- فيما عدا الركعتين الأوليين على قراءة الفاتحة وحدها مع قراءة ما تيسر من القرآن معها في الركعتين الأوليين، فجعلوا هذا الحكم مطردا في جميع الصلاة التي يسر بالقراءة فيها.
    ثانيها: أن حكم المأموم فيما عدا الفاتحة الشريفة الإنصات لقراءة الإمام، وكيف ينصت لقراءة لا يسمعها عندما يسر بها الإمام؟.
    ثالثها: ما رواه أبو داود في سننه وغيره من طريق عبدالله بن عبيدالله بن عباس عن عمه-أي عبدالله بن عباس رضي الله عنهما- أنهم دخلوا عليه فقالوا له: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال: لا قيل: لعله كان يقرأ في نفسه قال: هذه شر من الأولى، كان عبدا مأمورا بلغ ما أمر به، وروى أبو داود والنسائي عن عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم فقلنا لشاب منا: سل ابن عباس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ فقال :لا، لا، فقيل له:فلعله يقرأ في نفسه فقال: خمشا هذه شر من الأولى...إلخ
    وقد حملوا هذا النفي على ما زاد على الفاتحة الشريفة؛ لثبوت وجوب قراءتها في كل ركعة من جميع الصلوات .
    وذهب جمهور الأمة إلى مشروعية قراءة ما تيسر من القرآن مع فاتحة الكتاب في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، غير أنهم لم يقولوا بوجوب ذلك، بل قراءة ما زاد على الفاتحة لا يعدو أن يكون حكمها الندب عندهم، وعليه فلا يترتب فساد صلاة من اقتصر على الفاتحة وحدها عندهم، بل حكى غير واحد منهم الإجماع على عدم وجوب الزيادة على فاتحة الكتاب في مطلق الصلاة، ففي "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" للأمير علاء الدين الفارسي مانصه ((قال أبو حاتم: الأمر بقراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أمر فرض، قامت الدلالة من أخبار أخر على صحة فرضيته، ذكرناها في غير موضع من كتبنا، والأمر بقراءة ما تيسر غير فرض دل الإجماع على ذلك)) اهـ، وقال ابن القطان الفأسي في كتابه "الإقناع في مسائل" الإجماع ((ومن قرأ أم القرآن في صلاته فصلاته تامة مجزئة بإجماع من المصلين)) اهـ، وقال أبو العباس القرطبي في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" –وهو شيخ القرطبي المفسر المشهور- مانصه:((ولا قائل أعلمه يقول بوجوب قراءة السورة زيادة على أم القران وإنما الخلاف في وجوب أم القران خاصة)) اهـ، ونسب تلميذه القرطبي المفسر المشهور في تفسيره القول بعدم وجوب الزيادة على الفاتحة إلى جمهور أهل العلم، وبمثله قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" وقال النووي في "شرح المهذب" في السورة بعد الفاتحة)): مذهبنا أنها سنة، فلو اقتصر على الفاتحة أجزأته الصلاة، وبه قال مالك والثوري وأبوحنيفة وأحمد وكافة العلماء، إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن عثمان بن أبي العاص الصحابي رضي الله عنه وطائفة، أنها تجب مع الفاتحة سورة أقلها ثلاث آيات، وحكاه صاحب البيان عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه –إلى أن قال- دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم :(لاصلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) وظاهره الاكتفاء بها...إلخ.
    وفي صحيح البخاري حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول:(في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير) ومثله عند مسلم في "صحيحه"، وبهذا قال الإمام الباجي في "المنتقى" من غير أن يشير إلى خلاف فيه.
    ومستند القائلين بمشروعية الزيادة على أم القرآن في الأوليين من الظهر والعصر الأخبار الواردة بذلك، ومن ذلك حيث أبي قتادة قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحيانا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول في الأولى) رواه البخاري ومسلم ورواه بمعناه أبو داود والنسائي.
    وحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه المروي من طريق أبي معمر قال:(سألنا خبابا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضطراب لحيته) رواه البخاري وأبو داود.
    وحديث جابر بن سمرة عند أبي داود والترمذي والنسائي  (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر  بـ (والسماء ذات البروج) (والسماء والطارق) ونحوهما من السور) وعند مسلم وأبي داود والنسائي عن جابر بن سمرة أيضا قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـوالليل إذا يغشى، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك) وعنه عند مسلم وأبي داود:(كان يقرأ في الظهر ب(سبح اسم ربك الأعلى)، وفي الصبح بأطول من ذلك) وفي رواية النسائي عن البراء بن عازب رضي الله عنه كنا:(نصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الآية بعد الآيات من لقمان والذاريات) وعن أنس عند النسائي:(أنه صلى الظهر فلما فرغ قال: إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، فقرأ بهاتين السورتين بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية) وروى أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر قراءة خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك).
    على هذا عول القائلون بمشروعية الزيادة على أم القرآن في فرضي الظهر والعصر، وإن كانوا لا يقولون بأن هذه المشروعية ترقى إلى درجة الوجوب حتى تفسد صلاة من لم يأت بهذه الزيادة، وقد علمت أن من هؤلاء من حكى الإجماع على هذا، ومعنى هذا أن صلاة من اقتصر على أم القرآن وحدها صحيحة بالإجماع، والقول بعدم صحتها لا يعدو أن يكون شاذا.
    أما أصحابنا رحمهم الله فإنهم لم يعملوا بهذه الروايات؛ لما رأوا فيها من الاضطراب، فإن من هؤلاء الرواة من حكي عنه أنه عول على الحدس لا اليقين، كما هو عند أبي سعيد الخدري، ومنهم من روي عنه أنه ما علم قراءته صلى الله عليه وسلم إلا من اضطراب لحيته في الصلاة كما في حديث خباب، وهو مطلق؛ إذ لم يعين ما كان يقرؤه، على أن اضطراب اللحية لا ينحصر في قراءة ما زاد على الفاتحة الشريفة، بل هو مما يكون فيه وفيها، على أنه يبعد كل البعد أن يكون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-وهم المشهورون بالإخبات والخشية والخشوع وإجلال مقام الربوبية، باستشعارهم هيبة جلال الله وكبريائه في مناجاته –يعنون برفع أبصارهم لتفقد حال لحيته صلى الله عليه وسلم في صلاته وما يعروها من الاضطراب في قراءته أو ليسوا أولى الناس باتباع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عن كل ما حذروا منه؟ كيف وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع البصر في الصلاة والالتفات فيها، حتى قال في الذين يرفعون أبصارهم :(لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم) كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري وأبي داود والنسائي، ونحوه في حديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي، وحديث جابر ابن سمرة عند مسلم وأبي داود، وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال:(هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
    ولا يخفى مكان الإمام في الصلاة، فهو يتقدم المأمومين ولا يكاد يتمكن من رؤية اضطراب لحيته إلا من كان مواجها له، ولو أمكن ذلك لبعض المصطفين خلفه فإنه لا يتيسر لهم إلا برفع أبصارهم إليه مع التفاتهم إليه إن كانوا في أطراف الصف الذي خلفه، ولو أن نحو هذا كان من أحد عوام الناس وجهلتهم لانهال الناس عليه توبيخا وتقريعا؛ لمجانبته الخشوع الذي هو روح الصلاة التي تحيا بها، ومناط فلاح من أتى بها، فناهيك بمن أثنى الله عليهم في كتابه إذ قال فيهم :(تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود) أويظن بأمثال هؤلاء أن صلاتهم كانت صلاة الجهلة الذين لا يأتونها إلا دبارا؟ فلا يستشعرون فيها لذة المناجاة، ولا يذوقون فيها طعم التذلل بين يدي كبرياء الله، ولا تعرج أرواحهم بمعارج الفكر والتدبر لما يتلونه من آيات الله، حتى تفنى عن هذا العالم إلى عالم لا استشعار فيه إلا بما هم مقبلون عليه من أنس المشاهدة لحقيقة الوحدانية، أولم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحسان :(أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)؟.
    هذا وقد اختلف الذين روي عنهم تحديد القراءة في عين ما كان يقرؤه ومقداره، فإن السور المذكورة في هذه الروايات غير متحدة، ومقاديرها غير متقاربة، فكما رأيت أن في بعض الروايات كان يقرأ في الأوليين من الظهر في كل ركعتين قدر ثلاثين آية، وفي بعضها ما يدل على أنه يقرأ في الثانية قدر نصف ما يقرؤه في الأولى، وقد نص في بعضها على قراءة سورة لقمان والذاريات، وفي غيرها على سورتي البروج والطارق، وفي أخرى على الأعلى والغاشية، كما جاء في بعضها أنه يقرأ الليل وفي العصر مثل ذلك، وجاءت روايات مفرقة بين الظهر والعصر في مقدار ما يقرأ، وهذا وإن احتمل أن يكون الاختلاف فيه بتعدد الأحوال إلا أن قول بعض الرواة يفهم منه الاستمرار على الحالة التي يرويها، وبالجملة فإن الرواة في ذلك اختلفوا اختلافا كثيرا منهم من عول على الحدس، ومنهم من استدل باضطراب اللحية، ومنهم من حكى سماع الآية والآيتين، ومنهم من حكى سماع الآية بعد الآيات من سور حددها، ولا يخفى أنه مع مثل هذا الاختلاف لا تبقى النفس مستقرة على شيء، فلاغرو إن لم يعول أصحابنا على هذه الروايات وعولوا على رواية ابن عباس الجازمة بعدم القراءة -أي لأكثر من الفاتحة الشريفة- فإن قيل إن ابن عباس رضي الله عنهما نفسه ما كان مستقرا على الجزم في ذلك؛ لما رواه عنه أبو داود أنه قال: لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرا في الظهر والعصر أم لا؟
قلت يبعد أن يصح ذلك عنه لوجوه:
    أولها: لو كان ذلك صحيحا لما قال لسائله عندما قال له:(لعله كان يقرأ في سره :هذه شر من الأولى)؟ وقد ثبت ذلك عنه من رواية ابن أخيه عبدالله ابن عبيد الله كما رواه أبو داود، ورواية عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة كما رواه أبو داود والنسائي، فإن هذه الإجابة منه قاطعة لدابر الشك وقاضية على زعم التردد منه، وإلا فما باله جعل هذا التساؤل شرا لو أنه كان في نفسه غير جازم بما أجاب به، ويعزز ذلك قوله: كان عبدا مأمورا بلغ ما أرسل به .
    ثانيها: أنه (قال لسائله: خمشا) كما في رواية عبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكه، وهو دعاء عليه بخمش وجهه أو جلده، وأنى لابن عباس في سعته وحلمه وأناته أن يدعو بهذا على من اعترض عليه بسؤاله في أمر لم يستيقن فيه الحق، ولم يستبن فيه الرشد؟
    ثالثها: أنه يبعد كل البعد أن يكون ابن عباس الذي تضرب إليه أكباد الإبل من آفاق الأرض، وترد إليه عويصات المسائل، ويحتكم إلى رأيه عند الاختلاف والجدل، يجهل من مسائل صلاته ما يلقنه الصبية أول ما يمرنون على الصلاة، ويدربون على أدائها، أوليس هو الذي دعا له ابن عمه صلى الله عليه وسلم بقوله:( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ليت شعري أيكون هذا مبلغ فقهه في الدين الذي تمناه له ابن عمه عليه الصلاة والسلام وهو يدعو له ربه؟! أم أنه لم يستجب فيه دعاؤه صلوات الله وسلامه عليه حتى كان قدر فقهه في أقدس عبادة وأعظم ركن من أركان الإسلام لا يتجاوز مراتب أخس الجهلة العوام الذين لا يفرقون في عباداتهم بين الصحيح والفاسد؟ ليت شعري كيف كان يؤدي صلاته وقد عاش ما عاش وهو يجهل هذه المسالة المشهورة من مسائلها؟ لقد أجاد –لعمر الحق- شيخ الشريعة والأدب العلامة أبو مسلم رحمه الله تعالى، حيث قال في "نثاره للجوهر" دفاعا عن حبر الأمة وترجمان القران وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إن أحق ما يعتقد في جانب حبر الأمة نفي هذا الشك عنه، ورد الرواية به أصلا؛ إذ إضافة هذا وأمثاله إليه سوء أدب وسوء ظن وقدح في أضوء نجم من نجوم الاهتداء رضي الله عنهم)) اهـ
    وما جاء في بعض تلكم الروايات من كونه عليه الصلاة والسلام يسمعهم الآية أحيانا أو يسمعون منه الآية بعد الآيات هو مثار تساؤل؛ لأنه يستلزم تجاوزه عليه الصلاة والسلام في صلاة السر حدود الإسرار إلى الجهر، وهذا مما يؤدي إلى إباحة الجهر في موضع السر، فلا يبقى فرق بين صلاتي السر والجهر، ولمنافاته ما روي عن خباب أنهم كانوا يعرفون قراءته باضطراب لحيته، وهو يفيد أنهم ما كان لهم دليل على قراءته إلا هذه القرينة، إذ لو كان عندهم ما هو أقوى منها من الدلائل لكان أولى بخباب أن لا يدع الدليل الظاهر إلى القرينة الخفية، التي لو ثبتت لكان فيها أكثر من احتمال، فلو كان صلى الله عليه وسلم يسمعهم الآية أو الآيات مما يقرأ لما كان داع إلى عدم ذكر هذا الدليل والتعويل على تلكم القرينة الضعيفة، على أن سماع نحو هذا لا يختص به ذو سمع دون غيره ممن كانوا يصطفون بقربه صلوات الله وسلامه عليه، وكان ذلك داعيا للاشتهار بما ينقله القريب إلى البعيد.
    وأترك هنا الميدان لفارس المقام المجلي شيخ الشريعة والأدب ليسبح فيه بيعبوبه السباق الذي لايجارى فقد قال رحمه الله في "نثاره":((ثم هؤلاء الصحابة الذين أسندوا إليهم روايات قراءته فيهما لم ينقلوا عنهم أنهم قالوا في صلاتي العصرين أنهما جهريتان، بل نقلوا عنهم مجرد قراءته، فمنهم من عين القراءة بالحزر والتخمين، ومنهم من عينها نصا، فقال قرأ فيهما كذا وكذا، ومنهم من استدل على ما كان يقرؤه ببعض الآيات التي كان يسمعهم إياها أحيانا، فهؤلاء الرواة ولاشك أنهم أو أغلبهم كانوا يصلون معه صلاته تلك، فهم في تلك الصلاة على أحد أمرين: إما أن يكونوا منصتين لما يسمعون، وهنا لابد قد استحالت الصلاة عن حكمها عجماء وعن حكمها سرية إلى حكمها جهرية فانخرق الإجماع، وإما أن يكونوا غير منصتين لما يسمعونه فقد عطلوا فرض الإنصات، وهنا لابد لهم إما أن يكونوا غير منصتين يتابعونه في قراءته تلك فقد نازعوه في قراءته وقد نههاهم عن منازعته فيها، كما في حديث[!]، وإما أن يكونوا لا يتابعونه مع عدم إنصاتهم لقراءته فقد خرجوا من عمل الصلاة بعدم الإنصات، فلا بد لهم من لزوم حال من هذه الأحوال في تلك الصلاة.
    وعلى كل حال فلابد من كون تلك الصلاة جهرية؛ لأن قرآنها مسموع للمأمومين، ولا يكون معقولا أن يكون قرآنها مسموعا وهي في حكمها سرية، إذ المنطوق به إذا تجاوز إلى سمع الغير لم يبق في حكم الإخفاء والإسرار، بل قد انتقل إلى حكم الإظهار والجهر، والسر والجهر ضدان لا يجتمعان ولا يتصف بهما منطوق واحد في حال واحدة، فبطل أن يكونوا سمعوه، وهو مسر بمنطوقه، وبطل أن يكون منطوق به يخرج من فم الناطق فيتصل بأذن سامع فيتكيفه ذلك السامع ويفهمه ويؤديه عن الناطق إلى غيره ثم يحكم العقل بأنه باق في حكم السر، والنتيجة أن تلك الصلاة التي نقل سماع قراءته فيها قرآنا غير الفاتحة لاشك في أنها جهرية بحكم الصفة التي تلبست بها تلك، وهم مجمعون معنا على أن العصرين لا يجهر فيهما، فأين السر في صلاة سمع فيها عدول الصحابة تارة (سبح اسم ربك الأعلى) وتارة (هل أتاك حديث الغاشية) وتارة (والسماء والطارق) (والسماء ذات البروج) وتارة يسمعون منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات،  وتارة يقال:(عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع، فرأينا أنه قرأ تنزيل السجدة) وتارة يقال:(عن أبي سعيد الخدري كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر الم تنزيل السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على النصف من ذلك) في رواية بدل قوله:(تنزيل السجدة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وفي الأخرين قدر نصف ذلك) وتارة كما في حديث أبي قتادة المتفق عليه معهم (أنه كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفي الأخريين بفاتحة الكتاب) وتارة يقال عن سمرة بن جندب :(أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الظهر (والليل إذا يغشى) وفي العصر نحو ذلك).
    فأهل الروايات المعينة هل يقال إن تعين المقروء تأدى إلى أسماعهم وهو في حالة الإسرار وهو محال؟ أم يقال تأدى إلى أسماعهم وهو جاهر به ولابد منه؟
    وقد قلت: إن هذه الحالة تخرج الصلاة من حكمها سرية إلى حكمها جهرية، وأهل روايات التخمين والحزر كرواية أبي سعيد المذكورة هنا وكروايته الثانية (كانت صلاة الظهر تقام فينطلق أحدنا إلى البيقع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ، ثم يرجع إلى المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى) وكرواية خباب المتقدم ذكرها، وكرواية ابن عمر الآنفة هنا، كلهم لم ينصوا على مقروء معين؛ ذلك لأن المقروء لم يسمعوه إنما كانوا يستدلون على وقوع قراءة لهذه القرائن، تارة يحزرون مقدارها بتنزيل السجدة، وتارة بثلاثين آية، وتارة يستمر مقدارها زمنا يتمكن فيه الرجل من مسيره إلى البقيع وقضاء حاجته ومسيره إلى أهله للوضوء أي وللطهارة ثم يرجع إلى المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، فهذا الزمن يكاد أن تستغرقه سورة البقرة، فليت شعري أولئك المصلون خلفه كيف قضوا ذلك الزمن؟! هل كانوا يقرؤون معه عين ما يقرؤه فيكونون قد نازعوه قراءته؟ أم كانوا يقرؤون غير ما يقرأ فيكونون قد ضيعوا واجب المتابعة وإنما جعل الإمام إماما ليؤتم به؟ أم كانوا لا يقرؤون غير الفاتحة في زمن قراءته تلك؟ فيفترق هنا حكمهم وحكمه -أعني في القراءة- تجب عليه ولا تجب عليهم، وإذا لم تجب عليهم فلماذا تجب علينا؟)) اهـ
    هذا ومن المعلوم أن الصلاة عبادة يشترك في أقوالها وأعمالها الإمام والمأموم، والمأموم فيها تبع لإمامه كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام :(إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به) حتى أن المأموم المسافر يتبع إمامه المقيم فيصلي صلاته تماما ولو كان أصل فرضه ركعتين، اللهم إلا ما قام الدليل على استثنائه من هذه القاعدة، بحيث لم يلزم المأموم أن يأتي بما يأتي به إمامه اكتفاء بفعل الإمام وهو قول سمع الله لمن حمده، فإن المشروع للمأموم أن يقول وراء إمامه ربنا ولك الحمد كما نص عليه حديث(وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد) وكذلك قراءة ما زاد على الفاتحة الشريفة كما جاء في حديث عبادة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، قلنا: أجل، قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن لأنه لا صلاة إلا بها)، وما يعززه من الروايات الأخرى الدالة على هذا، لأن المشروع للمأموم فيما زاد على الفاتحة الشريفة الإنصات لقراءة إمامه، وكيف يكون الإنصات عندما يسر الإمام بالقراءة؟ أوليس سكوت المأموم فترة من الوقت غير قارئ ولا منصت لإمامه مدعاة لتشتت فكره وخروجه عن الاشتغال بالصلاة بما يلقيه بباله الشيطان من وساوس تذهب بعقله كل مذهب ليلبس عليه دينه ويفسد عليه صلاته؟ وإن كان لا يقتصر على قراءة الفاتحة في هذه الحال ويتابع إمامه في القراءة كما قيل بأن الإنصات وترك الزيادة على الفاتحة إنما هو في قراءة الجهر دون السر، قلنا أنى له بالمتابعة مع إسرار الإمام؟ أم أنه جرى العمل بأن يخبر ألإمام مأموميه قبل شروعه في صلاة السر بما سوف يقرؤه فيها ليتابعوه في سرهم؟ فإن قيل: لايتعين أن يتفقوا معه فيما يقرأ بل لهم أن يقرؤا ما شاؤوا، قلنا: وهل يتفق هذا مع ما يطلب منهم من ائتمامهم به؟ أوليس في ذلك انفلات المأموم عن الإمام في الصلاة حتى تكون صلاة كل منهما مستقلة عن صلاة الأخر؟  فلا يبقى معنى لارتباطه به وتقيده بحركاته في الركوع والسجود والقيام والقعود،  هذه هي وجهة نظر أصحابنا عندما تركوا الأخذ بتلكم الروايات، أردت شرحها في هذا الجواب لئلا يظن ظان أنهم أرادوا العدول عن السنة وارتضوا عنها بديلا، أو يتسرع متسرع إلى تخطئتهم والحكم ببطلان صلاتهم مع أنهم في هذا لم يكونوا شاذين عن مسلك علماء الأمة في التعامل مع المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ينقدح في نفوسهم ريب في ثبوته عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، فكأين من عالم رأيناه يقف عن الأخذ بروايات جاءت عنه صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة لا لشيء إلا للارتياب الذي يتراءى له فيها، ومن بين هؤلاء أئمة المذاهب الأربعة، فهذا الإمام مالك عرف عنه أنه كان لا يأخذ بالحديث الآحادي ولو صح سنده إن خالف عمل أهل المدينة، ولربما ترك العمل بالحديث لسبب آخر كان في رأيه التعويل عليه، ومن ذلك أنه يرى ترك العمل بحديث (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان له كصيام الدهر) حتى قال بكراهة صيام هذه الست، كما نص عليه في "الموطأ" إذ جاء فيه ((قال يحيى: وسمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك خفته عند أهل العلم ورأوهم يعملون بذلك)) اهـ، فأنت ترى أنه ترك الأخذ بهذا الحديث مع أنه جاء من طرق شتى، فقد رواه من الصحابة رضي الله عنهم أبو أيوب الأنصاري وثوبان وجابر بن عبدالله وأبو هريرة وابن عباس والبراء بن عازب، وقد بلغ بعض هذه الطرق مرتبة الصحة وبعضها دون ذلك، ولا ريب أنها يقوي بعضها بعضا، ومع هذا فإنه كره العمل بهذا الحديث لرأي رآه، وأيده عليه كبار علماء مذهبه، فقد قال الباجي في شرحه الموطأ "المنتقى")):وأنما كره ذلك مالك لما خاف من إلحاق الناس ذلك برمضان وأن لايميزوا بينها وبينه حتى يعتقدوا جميع ذلك فرضا)) اهـ
    ونص خليل على كراهة صيامها في مختصره –وهو المعول عليه في الفقه المالكي- ونقل شارحه الحطاب عن مطرف قوله :((إنما كره مالك صيام ستة أيام من شوال لذي الجهل لئلا توصل بيوم الفطر)) اهـ
    وقال ابن العربي المالكي في "عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي" ما نصه:((وصل الصوم بأوائل شوال مكروه جدا؛ لأن الناس صاروا يقولون تشييع رمضان وكما لا يتقدم لا يشيع –إلى أن قال- وروى ابن المبارك والشافعي أنها من أول الشهر، ولست أراه، ولو علمت من يصومها من أول الشهر وملكت الأمر أدبته وشردت به؛ لأن أهل الكتاب بمثل هذه الفعلة غيروا دينهم )) اهـ  
    وممن نص على كراهة صيامها من المالكية ابن شاس في "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" والقرافي في "الذخيرة" وزكى القرطبي قول مالك هذا بقوله:(( وقد وقع ما خافه، حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان)) اهـ
    فانظر كيف بلغ بأصحاب مالك التشدد في هذا حتى جعلوا صيام هذه الست طريقا إلى البدعة وحدثا في الدين يعاقب فاعله بالتأديب والتشريد مع ثبوت الحديث الصحيح المرغب في صيامها؟ والنبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالغيرة على الدين الذي جاء به أن يكدر صفوه بشوائب البدع، على أن تزكية القرطبي لما ذهب إليه إمامه مالك في هذا ليست بشيء، فإن قيام ليل هذه الست ليس من البدعة في شيء بل هو كقيام سائر الليالي إذ لا يختص القيام بليالي رمضان وحدها، كيف وقد أثنى الله على عباده الصالحين بقوله: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) ووصف المتقين بقوله : (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) وقال تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان  يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) وكان من دأبه عليه الصلاة والسلام أن يقوم الليل حتى تتفطر قدماه،  ولم يمنع من ذلك أصحابه، فقد قام معه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عندما بات عند خالته ميمونة، فتبع النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه، وهكذا كان شأنهم في اقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، ولا يُسلّم لابن العربي أن بهذه الفعلة غيّر أهل الكتاب دينهم، لأن تغييرهم لدينهم ما كان باتباعهم أنبياءهم ولكن بعصيانهم لهم، وفي صيام هذه الست بعد رمضان إتيان بما رغّب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    على أن كراهة صيام هذه الست لم تكن في مذهب مالك فحسب بل هي محكية عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، بل وعن شيخه أبي حنيفة أيضا.
     ومثل هذا إباحة مالك لإفراد يوم الجمعة بصيام النفل من غير كراهة، فقد جاء في "الموطأ"((وقال يحيى: سمعت مالكا يقول لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه)) اهـ، مع أن النهي عن صيامه وحده اشتهر من طرق كثيرة عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد أخرج أحمد والشيخان (عن أحمد بن محمد بن عباد بن جيفر قال: سألت جابرا أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم) وفي رواية للبخاري (أن يفرد بصوم) وزاد أحمد ومسلم وغيرهما (نعم ورب هذا البيت) وفي رواية النسائي (ورب الكعبة) وروى الجماعة إلا النسائي (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أوبعده يوم) ومن طريقه عند مسلم مرفوعا(لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) وعند أحمد من طريقه (يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوم يوما قبله أوبعده) وروى أحمد والبخاري وأبو داود (عن جويرية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها في يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري) وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصوموا يوم الجمعة وحده) وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن جنادة الأزدي رضي الله عنه(دخلتُ على رسول صلى الله عليه وسلم، يومَ جمعة في سبعة من الأزد، أنا ثامنهم وهو يتغدَّى، فقال: هلموا إلى الغداء فقلنا: يا رسولَ اللّه  إنا صيام. فقال: أصُمتم أمسِ؟ قلنا: لا. قال: فتصومُون غداً؟ قلنا: لا. قال: فأَفْطِروا. قال: فأكلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال.: فلما خرج وجَلَس على المنبر، دعا بإناء ماء، فشرب وهو على المنبر، والناسُ ينظرون إليه، يُريهم أنه لا يَصومُ يَومَ الجمعة) ومع هذا فإن بعض أصحاب مالك احتجوا لما ذهب إليه أن يوم الجمعة لا يمنع صيامه مع غيره فلا يمنع صيامه وحده، ولا يخفى أن هذا قياس في مقابل النص ورد لما ثبت بالسنة لمجرد النظر.
    ومن أمثلة هذا أن مالكا والثوري وأبا حنيفة وأصحابهم قالوا بأنه لا ينفع المحرم أن يشترط في حجه إذا خاف أن يحصر بمرض أو عدو، وهو الذي ذهب إليه الشافعي في "الأم" مع صحة حديث بضاعة بنت الزبير بن عبد المطلب الذي أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال  لها أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني) وقد أخذ بذلك جماعة من الصحابة والتابعين بل الشافعي نفسه في "الأم" رواه بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها وعلل عدم أخذه بالحديث أنه لم يصح عنده؛ لأنه رواه من طريق عروة مرسلا، وذكر أنه لو ثبت لم يعده، وأنكر الشافعي في "الأم" أيضا صحة حديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه الشيخان من طريق سليمان بن يسار أنها (قالت في الثوب تصيبه الجنابة: كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج للصلاة وأثر الثوب فيه بقع الماء) فقد قال في "الأم" ((إن هذا ليس بثابت عن عائشة وهم يخافون فيه غلط عمرو ابن ميمون إنما هو رأي سليمان بن يسار كذا حفظه عنه الحفاظ غسله أحب ألي، وقد روي عن عائشة خلاف هذا القول ولم يسمع سليمان فيما علمناه من عائشة حرفا قط ولو رواه عنها كان مرسلا))اهـ،     على أن دعوى أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة حرفا قط منقوضة بما جاء في صحيح البخاري (قال حدثنا قتيبة قال حدثما يزيد قال حدثنا عمرو عن سليمان قال سمعت عاشة ح وحدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار قال سألت عائشة عن المني يصيب الثوب..إلخ) فأنت تراه صرح في إحدى هاتين الروايتين بسماعه عن عائشة وفي الأخرى بأنه هو الذي سألها عن ذلك فمن أين جاءت دعوى من قال بأنه لم يرو حرفا عنها؟.


    وقد أجاد الحافظ بن حجر حيث قال في شرحه الحديث:(( قوله: (سمعت عائشة) وفي الإسناد الذي يليه سألت عائشة فيه رد على البزار، حيث زعم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة، على أن البزار مسبوق بهذه الدعوى، فقد حكاه الشافعي في "الأم" عن غيره، وزاد أن الحفاظ قالوا: إن عمرو بن ميمون غلط في رفعه، وإنما هو في فتوى سليمان. انتهى. وقد تبين من تصحيح البخاري له وموافقة مسلم له على تصحيحه صحة سماع سليمان منها، وأن رفعه صحيح، وليس بين فتواه وروايته تناف، وكذا لا تأثير للاختلاف في الروايتين، حيث وقع في إحداهما أن عمرو بن ميمون سأل سليمان، وفي الأخرى أن سليمان سأل عائشة؛لأن كلا منها سأل شيخه، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض، وكلهم ثقات.)) اهـ كلام الحافظ
    ومما يبعد دعوى عدم سماع سليمان من عائشة رضي الله عنها أن سليمان كان من كبار التابعين بالمدينة المنورة حيث كانت أم المؤمنين، فيبعد أن لا يتصل بها للاستفادة من علمها، والارتشاف من معين السنة النبوية، الذي كان يتدفق من لسانها، فقد كانت عيبة سنته صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ما حفظت عنه وأفادت به الأمة.
    أما الإمام أبو حنيفة فلا يخفى على أحد ممن مارسوا فقهه وعرفوا منهجه ترجيحه جانب الدراية على جانب الرواية، ناهيك أنه كان يرى ترك العمل بالرواية وإن صحت إن خالفها مذهب راويها، فضلا عن ترجيحه القياس على الحديث الآحادي، ولذلك عرفت مدرسته بمدرسة الرأي، وفيما ذكرناه من بعض آرائه وآراء أصحابه شاهد على أنهم تركوا الأخذ بأحاديث صحت أسانيدها لاعتبارات عولوا عليها.
    وأما الإمام أحمد الذي هو إمام مدرسة الحديث، فقد ردّ أحاديث رويت بأسانيد صحاح، أخرج بعضها بنفسه كما أنها عند الشيخين وغيرهما، وذلك من أجل اعتبارات انقدحت في ذهنه فاستساغ بها ردّ تلكم الأحاديث، ومن شواهد ذلك أنه روى بنفسه وروى الشيخان من طريق أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يهلك أمتي هذا الحي من قريش، قالوا: فما تأمرنا يارسول الله؟ قال: لو أن الناس اعتزلوهم) فقد قال ابنه عبدالله: قال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث؛ فإنه خلاف الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك اشتد إنكاره حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم(ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لايفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وقد حكى عنه النووي في "شرحه على صحيح مسلم" إنكاره لصحة هذا الحديث رأسا. هذا مع أن الحديثين يؤيدهما الواقع، ويتفقان مع دلائل القرآن، وينسجمان مع أصول الإسلام. وكان من مذهبه استحباب صيام يوم الثلاثين من شعبان –وهو المعروف بيوم الشك- إن حال دون رؤية الهلال قبله قتر أو غيم، حتى أن كثيرا من أصحابه كانوا يرون أن مذهبه وجوب الصوم في هذه الحالة، مع ما ثبت من الروايات المتعددة التي وردت بشتى الطرق وقد بلغت مبلغ الصحة، مشددة في صيام هذا اليوم وآمرة بإتمام العدة ثلاثين في حال الغيم. وقد أطال ابن تيمية في "فتاواه" في الانتصار لمذهب إمامه أحمد، أن صيام ذلك اليوم مستحب في حال الغيم، وكل مستنده إنما هو القياس والنظر .
    وإذا علمتم هذا فأي غرابة تبقى من صنيع أصحابنا إذ لم يأخذوا بالروايات الواردة بقراءة ما زاد على أم القرآن في الظهرين، مع ما في تلك الروايات من الاضطراب والاختلاف وما يدعو إلى الشك والريبة فيها، ولو أخذنا نتأمل ما بين هذا الذي عولوا عليه في عدم الأخذ بها، ومع ما عول عليه غيرهم في ترك الأخذ بروايات صحيحة الأسانيد حسب معايير أهل الحديث لوجدنا بونا شاسعا، فإن معول أصحابنا في تركهم العمل بتلكم الروايات كان أقوى مأخذا وأجلى تعلة، بينما ردّ غيرهم للكثير مما ردوه كان مبنيا على ما هو أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة، على أن ما ورد في قراءة ما زاد على الفاتحة لا يعدو أن يكون فعلا يحكى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه من ترك العمل بروايات صحت أسانيدها معظمه أقوال منقولة عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، ولا يخفى ما بين أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم من التفاوت في قوة الدلالة، إذ لا خلاف أن القول أدل على الحكم ، وأبين حجة من الفعل، ومع هذا كله فإنا تقول: بأن هذه الروايات كلها لم تتجاوز مرتبة الآحاد، ولا يسوغ فيها وفي أمثالها أن يفرض أحد قناعته على غيره؛ لأن ما ينقدح في الأذهان تجاهها يتفاوت  بتفاوت التفكر والإمعان، ويترتب على ذلك أن يكون في وجدان مجتهد ما ليس في وجدان غيره، وإنما الكل يطالب أن يتبع النهج الذي يراه أصح وأسلم وأوفق لمقتضيات العقول وأصول الشريعة، وقد أشار إلى هذا الأستاذ الإمام محمد عبده حيث قال:
    "ليس لهؤلاء –أي الذين ثبتت عندهم الرواية بعد التحري والتمحيص- أن يلزموا غيرهم ما ثبت عندهم؛ فإن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون له عن المنقول عنه في الحال مثل ما للناقل معه، فلا بد أن يكون عارفا بأحواله وأخلاقه ودخائل نفسه، ونحو ذلك مما يطول شرحه وتحصل الثقة في النفس بما يقول القائل" اهـ.
    وقال العلامة السيد محمد رشيد رضا بعد ما نقل هذا الكلام عن شيخه ما نصه:
    " معنى هذا أن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث، ويدعون إليها مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به، وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة، كصحيفة علي كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام: كالدية، وفكاك الأسير، وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى "الموطأ" وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة، وعلى من وثق برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذه عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعا عاما" اهـ
    ومن رجع إلى ما قاله أهل الحديث، وما بينوه من وسائل فهم الحديث الصحيح وغيره، يجد أن مسلك أصحابنا في هذا لم يخرج عن قواعد مصطلحهم، فإليك ما قاله الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه":(( وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور:
    أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.
    الثاني: أن يخالف نص الكتاب والسنة المتواترة، فيعلم أنه لا أصل له أو أنه منسوخ.
    الثالث: أن يخالف الإجماع، فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له.
    الرابع: أن ينفرد الواحد برواية ما يجب على كافة الخلق علمه، فيدل ذلك على أنه لا أصل له؛ لأنه لا يجوز أن يكون له أصل وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم.
الخامس: أن ينفرد برواية ما جرت العادة بأن ينقله أهل التواتر، فلا يقبل؛ لأنه لا يجوز أن ينفرد في مثل هذا بالرواية. اهـ.
    وأنتم تدرون أن أمر الصلاة تشريع عام ينطبق على جميع المسلمين، فيدخل فيه الرجل والمرأة والصغير والكبير، والنبي صلى الله عليه وسلم متعبد بأن يعلمهم أحكامها، ويبين لهم كيفية أدائها، فيبعد كل البعد أن لا يكون منه هذا حتى لا يتوصل إلى فهم أحكامها إلا من خلال رؤية اضطراب لحيته صلى الله عليه وسلم، أو سماع بعض الآيات التي يرتفع بها صوته أحيانا ليسمعها من كان أقرب المصلين في الصف الأول إليه صلوات الله وسلامه عليه، فلو كانت هذه القراءة مشروعة لأنبا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم جميع المصلين، ولنقل عنه ذلك نقلا مستفيضا كما نقل عنه ما قاله في قراءة الفاتحة الشريفة، لأن هذا أمر يتكرر عند كل مصلّ وليس هو كالمسائل التي يقل وقوعها.
    ولست أزعم أن هذه المسألة من مسائل الدين، وأن حجتنا فيها قطعية، كلا، فهي إحدى مسائل الرأي التي للاجتهاد فيها مجال واسع، وكل مجتهد مخلص لله تعالى في اجتهاده بحيث لا ينشد إلا الحق ولا يعول إلا على الدليل يثاب على اجتهاده ولا يعنف فيه، على أن لا يجعل من اجتهاده سهما يطعن به في اجتهاد غيره، ويدعي بطلان عمله لهذا تملكني العجب من قول ذلك الشيخ الذي أفتاكم بهذا، بأن صلاة من لم يزد على قراءة الفاتحة الشريفة باطلة، وإنما يعذر فيما مضى لجهله ولا يعذر في المستقبل، لقيام الحجة عليه على حد قوله تعالى في الربا :(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف وأمره إلى الله ..) فليت شعري من أين جاء بهذا الحكم؟ وكيف سوغ لنفسه أن يقول هذا القول؟ مع أن الأمة جميعا على خلاف هذا الرأي، فقد تبين لكم أن غير واحد من علماء المذاهب الأخرى نقل الإجماع على صحة صلاة من اقتصر على قراءة أم القران، ولئن كان بفطنته الوقادة ونظره الثاقب انفرد في هذه المسألة بما لم يسبق إليه من علماء مذهبه أوَلا يكون حريا به أن يقول كما قال فحول العلماء المجتهدين من قبله الذين نقل عن غير واحد منهم أنه قال فيما أداه إليه اجتهاده: هذا قولي وهو عندي صواب يحتمل الخطأ وما قاله غيري خطأ يحتمل الصواب؟ والأدهى من هذا كله أن يجعل هذا الأمر نظيرا للربا الذي أنزل الله فيه ما أنزل، فليت شعري أجعل المظنون كالمقطوع به؟ وأنزل رأيا رآه وفتوى أفتى بها منزلة حكم رباني نزل به نص قرآني من عند الله لا مساغ للشك في ثبوته ولا في دلالته؟ ولئن كان حريصا على إقناع الناس برأيه الذي ارتآه ألم يكن له في سائر الوسائل متسع عن الدخول في هذه المضائق وركوب هذا المركب الصعب؟ أَوَيرى أن فتواه هذه خرجت بهذه المسألة عن حدود الرأي؟ وارتقت بها إلى أوج مسائل الدين القطعية؟ أسأل الله تعالى لي وله ولكل مسلم البصيرة في الدين، والسلامة من عثرات القول وزلات الأفهام وكبوات الرأي، وهو ولي التوفيق، أومن به وأتوكل عليه، وأفوض أمري كله إليه، وأستغفره وأتوب إليه من كل ما خالفت فيه الحق وجانبت فيه الصواب عن إصرار أو عن خطأ، وهو حسبي وكفى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


                                                                                                                  أحمد بن حمد الخليلي
                                                                                                                   الرابع من ذي الحجة 1426هـ
 

القسم
1
1
الكتاب
1
1