القائمـة البريدية
أدخل عنوان بريدك ليصلك جديدنا

المكتبة السمعية
المكتبة المرئية
الدروسُ المستفادةُ من حادثةِ الإسراءِ والمعراجِ
بتاريخ 10 ديسمبر 2012
سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الدروسُ المستفادةُ من حادثةِ الإسراءِ والمعراجِ

 

الحمدُ للهِ الذي شرّفَ نبيَّه المصطفى وحبيبَه المجتبى ، إذْ أسرى به ليلاً مِن المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى ، فأراه من آياتِه ما أرى ، وبوَّأه الدرجاتِ العلى ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأُثني عليه ، وأستغفرُه من جميعِ الذنوبِ وأتوبُ إليه ، وأؤمنُ به وأتوكّلُ عليه ، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، مَن يُطعِ اللهَ ورسولَه فقد رشَدَ ، } وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا { ( الأحزاب/36) ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، أرسلَه اللهُ على فترةٍ من الرسلِ ، وانقطاعٍ من الوحي ، وضلالةٍ من الأمم ، وفسادٍ من الأخلاقِ ، وانحطاطٍ من القيم ، فبلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصَحَ الأمّةَ ، وكشَفَ الغمّةَ ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمّدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه ، وعلى كلِّ مَن اهتدى بهديه ، واستنَّ بسنّتِه ، وسارَ على نهجِه ، ودعا بدعوتِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

   فيا عبادَ اللهِ :

     لقد اعتادَ المسلمون في هذه الأيامِ وأسلافِها أن تتجدّدَ في نفوسِهم ذكرى من ذكرياتِ الرسولِ ـ عليه وعلى آلِه وصحبِه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ ، وهي ذكرى الإسراءِ والمعراجِ ، وقد نصَّ القرآنُ الكريمُ نصّاً صريحاً على الإسراءِ ، وجاء مُشيراً إلى المعراجِ ، فقد قالَ في الإسراءِ : } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { ( الإسراء/1) ، وأشار إلى المعراج في قوله :  } عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى { ( النجم/5 ـ 9) إلى آخرِ هذه الآياتِ الكريمةِ التي يشيرُ اللهُ تباركَ وتعالى فيها إلى أنّه أكرمَ عبدَه ورسولَه محمداً  صلى الله عليه وسلم  ، إذ أراه ما أراه من آياتِه الكبرى عندما بوَّأه الدرجاتِ العلى ، والإسراءُ درجةٌ ومنزلةٌ عظيمةٌ للنبيِّ  صلى الله عليه وسلم  ، ذلك لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ابتلاه ـ عليه وعلى آلِه وصحبِه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ في ذلك الوقتِ الذي كان يُلاقي فيه لأواءَ العنَتِ من قومِه ، إذ أعرضوا عنه ،  وكذّبوه ، وجابهوا الدعوةَ التي جاءَ بها ، وكذَّبوا المعجزةَ الباهرةَ التي اختصَّه اللهُ سبحانه وتعالى بها ، وهي معجزةُ القرآنِ الكريمِ ، ابتلاه اللهُ سبحانه وتعالى في ذلك الوقتِ برزيّتين كبيرتين ، فقد فَقَدَ ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ في ذلك الوقتِ عمَّه الذي كان يحنو عليه ، ويدافِعُ عنه شرَّ ما كان يلقى من قومِه ، ثمَّ فقَدَ رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وسلم  السيدةَ الحنونَ زوجَه الوفيّةَ خديجةَ الكبرى ـ رضيَ اللهُ تعالى عنها ـ ، فكانت مصيبتُه مصيبةً فادحةً ، وكادت الدعوةُ الإسلاميةُ أن تلفظَ أنفاسَها في ذلك اليومِ المكفهرِّ العابسِ في مكةَ المكرمةِ عندما كان النبيُّ  صلى الله عليه وسلم  يُلاقي ما يُلاقي من عنَتِ قومِه .

     وقد شاءَ اللهُ سبحانه وتعالى أن يأتيَ بعد ذلك  صلى الله عليه وسلم  إلى الطائفِ ، يدعو أهلَها إلى الإسلامِ مُبشّرِاً وداعياً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ ، ولكنَّ أهلَ الطائفِ كانوا أعتى وأشدَّ من قريش ، فلقيَ  صلى الله عليه وسلم  ما لقيَ مِن قِبلِهم ، فقد أغروا به السفهاءَ حتى أسالوا دمَه الشريفَ  صلى الله عليه وسلم  ، وآوى إلى بستانِ عتبة بنِ ربيعة ، وضرعَ إلى اللهِ سبحانه وتعالى قائلاً : « اللهمَّ إني أشكو إليك ضعْفَ قوّتي ، وقِلّةَ حيلتي ، وهواني على الناسِ ، أنت ربُّ المستضعفين وربُّ كلِّ شيءٍ ، إلى مَن تكِلُني ؟! إلى عدوٍّ ملّكَته أمري أم إلى بعيدٍ يتجهّمُني ؟! إن لم يكنْ بك غضبٌ عليّ فلا أبالي ، ولكن عافيتُك أوسعُ لي ، أعوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرقتْ له الظلماتُ ، وصلحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ أن تُنزِلَ بي غضبَك ، أو يحلَّ بي سخطُك ، لك العُتبى حتى ترضى ، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بك » ، فإذا باللهِ سبحانه وتعالى يكرِمُه أوّلَ ما يُكرِمُه بإيمانِ الجنِّ به ، وكأنّما سبحانه وتعالى ينبِّئُه بذلك أنّه إنْ كفرَ الإنسُ بدعوتِه فقد هيّأَ الجنَّ لهذه الدعوةِ فآمنوا بها ، ثمَّ إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أكرمَه بعد ذلك بالإسراءِ من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركَ اللهُ حولَه ؛ بأنْ جعلَه مُتنزَّلاً للرسالاتِ ، وموئِلاً للنبوّاتِ ، وفي هذا ما يشيرُ إلى إمامتِه  صلى الله عليه وسلم   بالنبيّين ، وأنَّ دعوتَه ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ إنّما جاءت ختاماً لتلك الدعواتِ السابقةِ التي قامَ بها المرسلون مِن قبلُ ، وأنَّ أمّتَه  صلى الله عليه وسلم  هي وريثةُ الأممِ في مقدّساتِها ، وهي أيضاً وريثةُ الأمـمِ في هدْيِ نبوّاتِها .

     ثمَّ بجانبِ ذلك أكرمَه اللهُ سبحانه بالعروجِ إلى السماءِ العُلى من أجلِ أنْ يُريَه من آياتِه ما أراه ، وهنالك بوّأَه اللهُ سبحانه وتعالى ما بوّأَه من الدرجاتِ العلى التي لم يتبوّأْها مِن قبلِه  صلى الله عليه وسلم  أحدٌ من البشرِ ، وكان في ذلك إشعارٌ من اللهِ سبحانه وتعالى له بأنّه إنْ وقفَ في وجهِهِ البشرُ ، وتنكّرت له الأرضُ ؛ فإنَّ الملأَ الأعلى يرحِّبون به  صلى الله عليه وسلم  ، والسماواتِ العُلى تفتحُ أبوابَها له ، فكانت رحلةُ الإسراءِ والمعراجِ منّةً كريمةً من عندِ اللهِ سبحانه لعبدِه ورسولِه  صلى الله عليه وسلم  في ذلك الوقتِ الحرِجِ ، وفي هذا أيضاً ما يشيرُ إشارةً واضحةً إلى أنَّ هذه الأمةَ يجبُ عليها أن تحافظَ على هدْيِ النبوّاتِ مِن قبلُ ، وأن تحافظَ على مقدّساتِ الرسالاتِ السابقةِ ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى اختارَها لأنْ تكونَ أمّةً وسَطاً بين الأممِ ، واختارَ نبيَّها  صلى الله عليه وسلم  أن يؤمَّ جميعَ النبيّين في المسجدِ الأقصى الذي هو مُتنزَّلُ الرسالاتِ ، وجعلَه اللهُ سبحانه وتعالى مكاناً مباركاً ، وفي هذا أيضاً ما يشيرُ إلى الربطِ بين المسجدين الشريفين : المسجدِ الحرامِ الذي انطلقَ منه  صلى الله عليه وسلم  في بدايةِ رحلتِه الأرضيةِ ، والمسجدِ الأقصى الذي جعلَه اللهُ سبحانه وتعالى غايةً لهذه الرحلةِ ، وبدايةً للرحلةِ السماويةِ ، وفي ذلك ما يشيرُ أيضاً إلى أنَّ هذه الأمّةَ رسالتُها رسالةُ المسجدِ ، فهي مرتبطةٌ بالمسجدِ ؛ فإنَّ المسجدَ كان بدايةَ رحلتِه  صلى الله عليه وسلم  في الأرضِ ، ونهايةَ رحلتِه فيها ، وبدايةَ رحلتِه منها إلى السماواتِ العلى ، ذلك كلُّه لأجلِ أن تحافظَ هذه الأمةُ أيَّما محافظةٍ على هذه المقدّساتِ ، وقد شاءَ اللهُ سبحانه أن يفرضَ على نبيِّه  صلى الله عليه وسلم  هناك في السماواتِ العُلى ، وهو ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بجوارِ الملأِ الأعلى  ، شاءَ اللهُ أن يفرضَ عليه  صلى الله عليه وسلم  وعلى أمّتِه هذه الصلواتِ الخمسَ ، وفي هذا ما يشيرُ إلى أنَّ الإنسانَ عندما يمثُلُ بين يدي اللهِ سبحانه لأداءِ هذه الصلاةِ إنّما تعرجُ روحه لتتضرّعَ إليه تباركَ وتعالى ، فجديرٌ أيضاً بالمسلمِ أن يحافظَ أيّما محافظةٍ على هؤلاءِ الصلواتِ الخمسِ ، وأنْ لا يفرِّطَ فيهنَّ ، واللهُ سبحانه وتعالى يقولُ لنبيِّه  صلى الله عليه وسلم  في نفسِ السورةِ التي امتنَّ عليه وعلى أمّتِه فيها بالإسراءِ ، يقولُ : } أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا { ( الإسراء/78 ـ 79) .

     فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، وعظِّموا ما عظَّمَ اللهُ سبحانه وتعالى من شعائرِه ، وحافِظوا على أداءِ هذه الصلواتِ الخمسِ كما أمرَكم اللهُ تعالى في الجماعاتِ ، وحافِظوا على أداءِ جميعِ شعائرِ اللهِ التي افترضَها عليكم . أقولُ قولي هذا ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ، فاستغفِروا اللهَ يغفرْ لكم ؛ إنّه هو الغفورُ الرحيمُ ، وادعوه يستجبْ لكم ؛ إنه هو البــرُّ الكريمُ .

*         *          *

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والعاقبةُ للمتقين ، ولا عدوانَ إلا على الظالمين ، أحمدُه تعالى بما هو له أهلٌ من الحمدِ وأشكرُه ، وأتوبُ إليه من جميعِ الذنوبِ وأستغفرُه ، وأؤمنُ به ولا أكفرُه ، وأُعادي من يكفرُه ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وعلى أتباعِه وحزبِه إلى يومِ الدِّينِ ، أمّا بعدُ :

  فيا عبادَ اللهِ :

      اتقوا اللهَ ، وعظِّموا رسولَه  صلى الله عليه وسلم  باتّباعِ سنّتِه ، وإحياءِ ما اندرسَ منها ؛ فإنَّ تعظيمَه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ ليس أمراً شكليّاً كشأنِ الناسِ الذين يحتفلون بذكرياتِه  صلى الله عليه وسلم  ، ثم لا يبالون بجانبِ ذلك بما اندرسَ من سنّتِه ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ ، فتعظيمُه  صلى الله عليه وسلم  يقتضي القيامَ بدعوتِه ، وإحياءَ ما اندرسَ من سنّتِه ، والاقتداءَ به  صلى الله عليه وسلم  ، وذلك بالقيامِ بهذا الدِّينِ حقَّ القيامِ ؛ فإنَّه مِن شأنِ الإنسانِ الذي يحبُّ أحداً ويعظِّمُه ويجِلُّه أن يسارعَ في هواه ، والنبيُّ  صلى الله عليه وسلم  كلُّ هواه إنّما في اتباعِ دينِ اللهِ سبحانه ، فهو ـ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ـ بُعِثَ لإخراجِ الناسِ من الظلماتِ إلى النورِ ، ومن الباطلِ إلى الحقِّ ، ومن الغيِّ إلى الرشدِ ، ومن الضلالِ إلى الهدى ، ومن الافتراقِ إلى الاجتماعِ ، لذلك كان واجباً على هذه الأمّةِ أن تحرصَ كلَّ الحرصِ على هذه المُثُلِ ، أن تحرصَ على ما يجمعُ شملَها ، وأن لا تفترِقَ بها السُّبُلَ كما تفرّقتْ بالأممِ مِن قبلُ .

       هذا .. ولا ريبَ أنَّ النفسَ المسلمةَ عندما تمرُّ بها أيُّ ذكرى من ذكرياتِه  صلى الله عليه وسلم  تفيضُ مشاعرُها ، وتتحرّكُ أحاسيسُها ، ولكنْ لا يعني ذلكَ أن تكونَ محبّتُه  صلى الله عليه وسلم  محبّةً عاطفيّةً فقط لا تلبثُ أن تغورَ ، وإنّما محبّتُه  صلى الله عليه وسلم  محبّةُ عقيدةٍ ، محبّةُ إيمانٍ ، محبّةُ إخلاصٍ ووفاءٍ ، محبّةُ طاعةٍ وانقيادٍ ، وبجانبِ ذلك على الناسِ أن يُدرِكوا بأنَّ هذه الذكرى وإن كنّا نحن نقطعُ فيها بالنصِّ الذي وردَ فيها ، إلا أنّنا لا نستطيعُ أن نحدِّدَ زمنَ وقوعِ الحادثةِ ، فإنَّ زمنَ الإسراءِ والمعراجِ لم تأتِ روايةٌ صحيحةٌ تحدِّدُ زمنَه ، وإنّما جاءت الرواياتُ تنصُّ على هذه الحادثةِ العظيمةِ من غيرِ تحديدٍ لزمنِها ، ولذلك اختلفَ المسلمون فيها اختلافاً كبيراً ، وإنْ شاعتْ في أوساطِهم أنّها كانت في ليلةِ السابعِ والعشرين من هذا الشهرِ الكريمِ .

    فاتقوا اللهَ يا عبادَ اللهِ ، واحرصوا على الخيرِ واتّباعِ الرشدِ الذي جاءَ به ـ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه ـ .